بوتين ينتظر الشتاء

بوتين ينتظر الشتاء

18 سبتمبر 2022
+ الخط -

آخر أيام الشتاء الماضي في أوروبا ظن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنّه قادر على القيام بهجوم خاطف نحو كييف، ليستولي عليها خلال أيام، وينهي وحدة الكيان الأوكراني، لكنّه بعد أسابيع من القصف والهجمات البرّية الفاشلة، عجز عن تحقيق ذلك. وبقيت العاصمة، رغم الدمار الذي لحق بها، بعيدة عن قبضته، ليغيّر خططه العسكرية منكفئا نحو الشرق، بإحكام الطوق على إقليم دونباس، وتركيز هجومه على مدينة خاركيف، وما حولها، فيحقّق بذلك تقدّماً بطيئاً وصعباً، ثم يمدّ قوته في الجنوب، ليضع قدمه على شواطئ البحر الأسود، محاولاً كسب أكبر مساحة ممكنة، معتمداً على ضرب البنية التحتية الأوكرانية، بشكلٍ متعمّد، لتغرق البلاد في ظلام دامس بعد انقطاع الكهرباء .. وفجأة يتعطّل سير هذه الخطّة، وتُمنى قوات بوتين بضربة قاصمة في الأسبوعين الماضيين، فتهيم على وجهها متخلّية عن أسلحتها، وهاربة باتجاه الحدود الدولية، بعد قيام الجيش الأوكراني بهجوم معاكس، أجبر القوات الروسية على ترك كلّ ما احتلته من أراضٍ في الشرق منذ إبريل/ نيسان الماضي، ليحاول بوتين تجربة أسلحة جديدة، منها سلاح الشتاء الذي اقترب، متمنياً أن يكون هذا الشتاء قاسياً بدرجة كافية تُكسبه الحرب.

يبدو أنّ الشتاء عامل حاسم في سير الحروب التي تخوضها روسيا، فقد كان الاعتماد على الفصل البارد صائباً، عندما استطاع هذا العدو الطبيعي أن يحسم أمر نابليون بونابرت الذي لاحق جيش القائد الروسي، ميخائيل كوتوزوف، حتى وصل إلى موسكو، لكنّ أسلوب كسب الوقت انتظاراً للمعجزة الجوية أتى بثماره كما رغب الروس، فعانى نابليون وجيشه من البرد ونقص المؤن، ما أفقد الجيش تماسكه، فتبدّد في الصحاري المتجمّدة، ثم أُجبر نابليون على العودة إلى باريس ليواصل التمسّك بكرسيه الإمبراطوري. وفي تكرار لمشهد من بطولة الشتاء الروسي، تفرّقت الجيوش الألمانية التابعة لهتلر في الوحول الثلجية العميقة، فأُجبرت هذه الجيوش الجرّارة المتخمة بالسلاح الحديث على التراجع عن موسكو، بعدما كانت الطلائع الألمانية العسكرية على مشارف الكرملين. كسبت روسيا في الحربين بفضل دخول شتائها القارس ميدان المعركة. أما في حربها اليوم فتختلف القواعد كثيراً، لأنّ الطرف المهاجم هو الروس أنفسهم، فاقتحم بوتين أوكرانيا متقمّصاً بجدارة دور نابليون العسكري المتعطش لمزيد من الفتوحات، ودور هتلر الغول الجغرافي الذي يريد التهام أوروبا.

يعرف بوتين أنّه لا يجب أن يخرج من هذه الحرب بهزيمةٍ مذلّة، لأنّ ذلك سيجعله يقف عارياً أمام أنصاره في الداخل، ولن يترك له المتطرّفون القوميون، ولا من بقي من متطرّفي الشيوعية، مجالاً ليبقى في منصة الرئاسة، لكنّ الخطر الأكبر الداخلي عليه يأتي من المجموعات الشعبية الكثيفة التي تؤمن بالخطاب البوتيني، وتجري خلفه بعفويةٍ وسذاجة، فهؤلاء قادرون على تحطيم سلطته بسرعة أكبر. لذلك، سيلجأ بوتين إلى استغلال الشتاء، ليقطع إمدادات الطاقة عن أوروبا، وقد باشر بالفعل في تجربة هذا الخيار وهو يتطلع إلى استمالة الناخب الأوروبي الذي يؤمن بقوت يومه قبل أي حزب سياسي، وقد يؤثر فيه قطع الطاقة، الأمر الذي سيُجبر سياسيي بلده على مجاملة بوتين. لذلك لا بد أنّ الأخير يأمل بشتاء قاسٍ إلى درجة كافية، أما الحكومات الأوروبية، خصوصاً في ألمانيا، وهي الدولة الرائدة في أوروبا، فقد قامت بتخزين كلّ ما تستطيع تخزينه من الغاز في خطوةٍ احترازية. وهذا بالطبع لن يمنع الأسعار من الارتفاع، لكنّها تأمل ألّا تصل إلى درجة تجعل مزاج مواطنيها يميل لصالح بوتين. وإذا استطاعت الدول الغربية تجاوز الشتاء مع استمرار الدعم الأميركي العسكري اللامحدود لأوكرانيا، فعندها قد يصبح بوتين أمام خيار شديد المرارة، وهو مدّ يده إلى الأسلحة غير التقليدية، وهذا ما يعتبره جو بايدن خطّاً أحمر. عندها، يمكن اكتشاف مدى جدّية خطوط بايدن الحمراء، وإنْ كانت شبيهة بالخطوط التي رسمها أوباما لبشار الأسد، عندما استخدم الأسلحة الكيميائية.

فاطمة ياسين
فاطمة ياسين
كاتبة سورية، صحفية ومعدة ومنتجة برامج سياسية وثقافية