انتخابات الجزائر التشريعية: إعادة إنتاج النظام، أم خطوة نحو "الجزائر الجديدة"؟
شهدت الجزائر في 12 حزيران/ يونيو 2021 انتخابات تشريعية مبكّرة، دعا إليها الرئيس عبد المجيد تبّون في 22 شباط/ فبراير 2021، بعد أن حل المجلس الشعبي الوطني (البرلمان). وتعد هذه الانتخابات ثالث عملية انتخابية تُجرى، منذ بداية الحراك في 22 شباط/ فبراير 2019، الذي أدّى إلى تنحي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، حيث سبقتها الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019، التي فاز بها الرئيس تبّون، واستفتاء 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 على تعديل الدستور.
قانون الانتخابات وسياقها
جرت الانتخابات بموجب قانون الانتخاب الجديد الذي صدر في 10 آذار/ مارس 2021، والذي تضمنت موادّه بعض الوعود التي كانت السلطة قطعتها على نفسها، مثل تمكين الشباب والنساء من المشاركة السياسية، ومحاربة "المال الفاسد" الذي طالما شوّه العملية الانتخابية، فقد نصّت المادة 191 على أن القوائم المتقدّمة للانتخابات يتعيّن عليها "مراعاة مبدأ المناصفة بين النساء والرجال، وأن تخصّص، على الأقل، نصف الترشيحات للمترشّحين الذين تقل أعمارهم عن أربعين سنة، وأن يكون لثلث مرشّحي القائمة، على الأقل، مستوى تعليمي جامعي". كما حدّد هذا القانون المصادر المسموح بها لتمويل الحملة الانتخابية (المادة 87)، والتي يسهر عليها مجلسٌ تابع للسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات (المادة 26) عبر لجنةٍ لمراقبة تمويل حسابات الحملة الانتخابية. كما تنص المادة 88 على حظر تلقّي أي مترشّح، "بصفةٍ مباشرة أو غير مباشرة، هبات نقدية أو عينية أو أي مساهمة أخرى، مهما كان شكلها، من أي دولةٍ أجنبيةٍ أو أي شخصٍ طبيعي أو معنوي من جنسية أجنبية".
إضافة إلى ذلك، تنص المادة 191 على أن يتم الانتخاب "بطريقة الاقتراع النسبي على القائمة المفتوحة، وبتصويت تفضيلي دون مزج"؛ ما يعني أن حظوظ المترشّحين يفترض أن تكون متساوية؛ لأن نظام القائمة المفتوحة يمنح الناخب حرية ترتيب مرشحي القائمة الواحدة، على عكس نظام القائمة المغلقة الذي يفرض على الناخب الترتيب الذي يحدده الحزب في القائمة.
شاركت في الانتخابات أحزابٌ عديدة، منها أحزاب التيار الوطني (جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، وغيرهما)، إضافة إلى أحزاب التيار الإسلامي (حركة مجتمع السلم، وحركة البناء الوطني، وحركة النهضة، وحركة الإصلاح الوطني، وجبهة العدالة والتنمية)، فضلًا عن أحزابٍ حديثة النشأة (جيل جديد، وطلائع الحريات، وجبهة الحكم الراشد، وغيرها). لكنّ أحزابًا أخرى، محسوبةً على التيار الديمقراطي، قاطعت الانتخابات؛ على أساس أن شروط تنظيم انتخابات حرّة وشفافة غير متوافرة، وهو ما ذهبت إليه أيضًا جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، أبرز قوى المعارضة التقليدية في الجزائر، إضافة إلى حزب العمال اليساري.
تنافست على مقاعد البرلمان 1483 قائمة (22553 مترشّحًا)، منها 646 قائمة حزبية (10466 مترشّحًا) و837 قائمة مستقلة (12085 مترشّحًا)
أما الحراك الشعبي، الذي تراجع نشاطه خلال عام 2020 بسبب جائحة فيروس كورونا (كوفيد - 19)، قبل أن يعود ويستأنف خلال شباط/ فبراير 2021، فقد شهدت مواقفه تباينًا من موضوع المشاركة في الانتخابات، ومن مبادرات السلطة عمومًا، فجزء منه يعتبر أن ما يجري ليس سوى عملية إعادة إنتاج النظام نفسه عبر عملياتٍ انتخابيةٍ لا تتحقق فيها شروط النزاهة، وأن الجيش ما زال يمسك بمفاصل القرار. ويتبنّى جزء آخر من الحراك موقفًا مغايرًا؛ إذ يرى أن المشاركة في الانتخابات لا تتعارض مع التمسّك بالمسيرات الشعبية آليةً للاحتجاج والاستمرار في المطالبة بالتغيير.
تنافست على مقاعد البرلمان 1483 قائمة (22553 مترشّحًا)، منها 646 قائمة حزبية (10466 مترشّحًا) و837 قائمة مستقلة (12085 مترشّحًا). وتتضمن الأشكال المصاحبة مجموعة من البيانات المتعلقة بالمشاركة في الترشح للانتخابات، ويتبين من خلالها كيف انعكس قانون الانتخابات الجديد على نسب المشاركة في الترشح، سواء تعلق الأمر باعتماد نظام القائمة المفتوحة (الشكل 1 و2)، أو باشتراط المناصفة بين الرجال والنساء (الشكل 3)، أو بدعم مشاركة الشباب في القوائم الانتخابية (الشكل 4)، أو حتى بمشاركة حاملي الشهادات الجامعية (الشكل 5).
من ناحية أخرى، تبيّن الإحصاءات المتعلقة بأنشطة الحملة الانتخابية تباينًا في نوع الأنشطة بين القوائم الحزبية والمستقلة؛ إذ يبدو واضحًا أن الأحزاب، التي تتميز بالقدرة المادية على التنظيم والتعبئة، اعتمدت أكثر على التجمعات الشعبية، في حين اتجهت القوائم المستقلة أكثر إلى العمل الميداني واللقاءات المباشرة بالناخبين، خاصة في القرى والمدن الصغيرة؛ حيث اعتمد مرشحوها على لقاء الناس في الأماكن العامة وجهًا لوجه، بدلًا من التجمعات التقليدية التي تعقدها الأحزاب في قاعات مغلقة (الشكل 6).
ولا تخلو الصورة العامة التي ظهرت عليها الحملة الانتخابية من دلالاتٍ مهمة، منها مثلًا، تركيز الأحزاب ومترشّحي القوائم المستقلة على العامل القبلي في المدن الصغرى والأرياف والقرى، خصوصا أن التركيز في هذه المناطق لم يكن على البرامج السياسية، بل على إقناع الناخبين بالتصويت. أما في المدن الكبرى (ومنها الجزائر العاصمة)، فقد كانت أنشطة الحملة الانتخابية محدودة للغاية، وقد تداولت وسائط التواصل الاجتماعي مشاهد لقاعاتٍ تكاد تكون فارغة. وكانت هذه الظاهرة أكثر حدّة في مدن منطقة القبائل الكبرى، المعروفة تقليديًا بمقاطعة الانتخابات، وحيث يوجد قطاع مهم من الوعاء الانتخابي لحزبَي جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية المعارضَين اللذين أعلنا مقاطعتهما لهذه الانتخابات.
تحليل النتائج
أعلنت السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، في 15حزيران/ يونيو 2021، عن نتائج الانتخابات، التي لم تتجاوز نسب المشاركة فيها حدود 23.03%، مقارنةً بـ 35.7% في الانتخابات التشريعية 2017 و42.9% في الانتخابات التشريعية 2012، وهي تعد منخفضةً أيضًا مقارنةً بنسبة التصويت في الانتخابات الرئاسية 2019 (41%) واستفتاء تعديل الدستور 2020 (23.7%). ومن شأن نسبة المشاركة المتدنية هذه أن تعيد العلاقة المتوترة أصلًا بين الحراك الشعبي والسلطة إلى المربع الأول؛ إذ سيرى الناشطون في الحراك فيها دليلًا على افتقاد البرلمان الجديد للشرعية، في حين ستتمسّك السلطة بشرعية العملية الانتخابية والمضي في بناء "الجزائر الجديدة". وكان الرئيس تبّون استبق إعلان النتائج بقوله إن "نسبة المشاركة لا تهمه كثيرًا"، وإن "ما يهمه هو أن من يفرزهم صندوق [الاقتراع] يحوزون الشرعية الكافية التي تمكنهم من ممارسة السلطة التشريعية".
1. عودة ضعيفة لقوى التحالف الرئاسي
أسفرت انتخابات المجلس الشعبي الوطني الذي يتكون من 407 مقاعد، كما يبينه الشكل (7)، عن حصول حزب جبهة التحرير الوطني على الأغلبية (105 مقاعد)، انخفاضًا من 164 مقعدًا في انتخابات 2017، متبوعةً (باستثناء القوائم المستقلة) بحركة مجتمع السلم (64 مقعدًا) وكان لها 33 مقعدًا في البرلمان السابق، والتجمع الوطني الديمقراطي (57 مقعدًا) وكان له 97 مقعدًا في البرلمان السابق.
وهذه الأحزاب الثلاثة هي التي شَكّلت ما يُعرف بالتحالف الرئاسي عشية إعادة انتخاب الرئيس بوتفليقة في عام 2004، وقد انسحبت منه حركة مجتمع السلم عام 2012. وباستثناء الحركة الأخيرة، التي ضاعفت عدد مقاعدها تقريبًا، فإن جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي قد خسرا ما لا يقل عن ثلث مقاعدهما في البرلمان، وهو مؤشّر على تراجع كبير في دور الحزبين وشعبيتهما، اللذين شكلا فيما مضى أركان التحالف الذي حكم البلاد طوال عشرين عامًا من عهد بوتفليقة. أما جبهة المستقبل، التي حلت في المركز الخامس وحصلت على 48 مقعدًا، فهي حزبٌ أسسه عبد العزيز بلعيد عام 2012، بعد انشقاقه عن جبهة التحرير الوطني؛ وقد شارك في الانتخابات الرئاسية 2019 وحلّ في المركز الأخير؛ ويصنف الحزب ضمن تيار الوسط. أما حركة البناء الوطني، التي حصلت على 40 مقعدًا، فهي حزب إسلامي وسطي مقرب من السلطة، وقد سبق أن ترشّح زعيمه، عبد القادر بن قرينة، للانتخابات الرئاسية 2019 وحل في المركز الثاني؛ كما أن نائبًا من نوابه، سليمان شنين، اختِير رئيسًا للبرلمان السابق خلفًا لمعاذ بوشارب الذي استقال تحت ضغط الحراك الشعبي. فضلًا عن ذلك، فإن احتلال حركة مجتمع السلم المركز الثالث، بعد القوائم المستقلة، قد لا يعني الكثير لاتجاهات المعارضة في البرلمان المقبل، خصوصا أن هذا الحزب (إسلامي وسطي) كان من الدعاة المبكّرين لتدخل الجيش لضمان "انتقال آمن" للسلطة قبل نهاية العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة، إضافة إلى أنه كان جزءًا من التحالف الرئاسي طوال فترة معتبرة من حكم بوتفليقة. واقتسمت بقية المقاعد الخمس عشرة ثمانية أحزاب صغيرة متعدّدة التوجهات السياسية.
أما بالنسبة إلى التحالفات الحزبية، وبحسب التجارب السابقة، فإن تحالف أحزاب التيار الوطني (خصوصا جبهة التحرير الوطني والتجمّع الوطني الديمقراطي) يظل الأكثر رسوخًا، في حين انتهت تجارب التحالف بين القوى الإسلامية إلى الفشل عامي 2012 و2017. ومن ثم، يبدو أن احتمالات تشكّل تحالف إسلامي بين حركة مجتمع السلم وحركة البناء الوطني تظل ضئيلة، خصوصا أن الأخيرة تأسست منذ البداية، في عام 2012، باعتبارها حركة منشقة عن الأولى؛ وهذا من الانقسامات العديدة التي عرفتها الأحزاب الإسلامية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
2. صعود القوائم المستقلة والشباب وتراجع تمثيل المرأة
شهدت الانتخابات حصول القوائم المستقلة مجتمعةً على 78 مقعدًا، أي ما نسبته 19.1% من مقاعد البرلمان. ويُعدّ هذا تطورًا ملحوظًا مقارنةً بنسبة 6% التي حققتها في انتخابات عام 2017، غير أنه جاء أيضًا أقل من التوقعات؛ نظرًا إلى ارتفاع نسبة المترشحين ضمن القوائم المستقلة (54%) وتراجع شعبية الأحزاب التقليدية التي يطالب الحراك الشعبي برحيلها، باعتبارها رموزًا لنظام الرئيس بوتفليقة. في مقابل ذلك، سوف يضم البرلمان الجديد نسبة معتبرة من الشباب (34%)، فضلًا عن نسبة كبيرة من حاملي الشهادات الجامعية (75%).
يُلاحظ أن تمثيل النساء، في المقابل، شهد تراجعًا كبيرًا، مقارنةً بآخر تشكيلتَين عرفهما البرلمان؛ إذ لم يتعدَّ نسبة 8% من المقاعد، مقارنةً بنسبة 31% في انتخابات 2012 و26% في انتخابات 2017 (الشكل 8). ويعود هذا التراجع إلى عوامل عديدة جلها اجتماعي، لكن أبرزها كان إلغاء مبدأ "الكوتا" في قانون الانتخابات، الذي أقرّه الرئيس بوتفليقة عام 2012، وقضى بتخصيص نسبة 30% من قوائم الترشيحات للنساء. وقد استُبدِل بمبدأ المناصفة بين الرجال والنساء في الترشيحات، غير أن الانتقال من نظام القائمة المغلقة إلى نظام القائمة المفتوحة أفرز نسبة معتبرة من المترشحات في مقابل نسبة ضئيلة من المنتخبات (الشكل 8).
تعتبر هذه النسب، سواء تعلق الأمر بتراجع تمثيل المرأة أو بحصول المترشّحين المستقلين على عدد أقل من المقاعد، نتيجة طبيعية لقاعدة "عتبة 5%" التي أقرها قانون الانتخابات الجديد في المادة 194، والتي تنص على أنه "لا تؤخذ في الحسبان، عند توزيع المقاعد، القوائم التي لم تحصل على 5% على الأقل، من الأصوات المعبر عنها"؛ ما يعني إقصاء مرشحيها من احتساب المقاعد. وقد أدى اعتماد هذه القاعدة إلى زيادة عدد الأصوات غير المحتسبة.
خاتمة
عرفت الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت في الجزائر، في 12 حزيران/ يونيو 2021، مشاركة متدنية (نحو 23%)؛ ما يعكس حالة من عدم الاهتمام الشعبي. وأسفرت أيضًا عن استمرار الأحزاب التقليدية في تصدر المشهد السياسي، لكن قوتها تراجعت تراجعًا حادًّا، قياسًا بما كانت عليه في البرلمان السابق. في المقابل، شهدت الانتخابات صعودًا كبيرًا للنواب المستقلين وتراجعًا في تمثيل المرأة. وفي حين تراجع حضور جبهة التحرير الوطني إلى ربع أعضاء البرلمان فقط، فقد تتجه نحو تجديد تحالفها مع التجمع الوطني الديمقراطي، لكن هذا الاحتمال قد يُصرف النظر عنه إذا ما تبين أنه يمثل استفزازًا للشارع؛ باعتبار أن ذلك يمثل استعادة للمشهد السياسي الذي ساد في عهد الرئيس بوتفليقة. في هذه الحالة، سيكون أمام الرئيس تبّون بدائل عديدة لتشكيل أغلبية رئاسية. قد تضم إلى جانب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، حركةَ مجتمع السلم، خاصة في ظل وجود تجربة طويلة سابقة معها. كما يمكن أن تضمَ جبهةَ المستقبل، التي تنتمي إلى تيار الوسط، ولا تُعدّ حزبًا معارضًا، وكذلك حركة البناء الوطني. تعزّز هذه الاحتمالات حالة التشظي التي تشهدها الأحزاب ذات التوجه الإسلامي، فضلًا عن أن عدد المقاعد التي حصلت عليها بقية الأحزاب، خارج إطار التحالف الرئاسي الموروث عن عهد الرئيس بوتفليقة، لا تمكّنها من تشكيل أغلبية برلمانية (ويشمل هذا أيضًا قوائم المستقلين). إن تعدد هذه البدائل في يد السلطة، في هذه الحال، قد يعزّز التنافس بين هذه الأحزاب حول الانضمام إلى الأغلبية الرئاسية التي ستلتف حول برنامج الرئيس.