الفنان إنساناً يعيش لهامش اختياراته

الفنان إنساناً يعيش لهامش اختياراته

02 مايو 2024

(خوان غريس)

+ الخط -

كأشياء تساعدك على تأليف الضحكات المُرّة، حاول أن تتخيّل فرناندو بيسوا يؤلّف أغنيات للرحّالة والضبّاط البرتغاليين في مراكبهم المُتَّجِهَة إلى جزر جنوب شرقي آسيا، وإن استطعت أن تفعل ذلك، فحتماً ستَتَخَيَّل قصيدةً مستحيلةً قد يؤلّفها أحمد عبد المعطي حجازي في قتل أطفال غزّة، على غرار قصائد مدرسة بحر البقر أو ما فعلته فاطمة ناعوت مع أطفال قطار "البدرشين" في أيام المرحوم محمد مرسي. ولكن واضح أنّ القوافي والأوزان تطاوع البنان أحياناً، وتمتنع في أحايين أخرى مثل غزّة، وقد يفعلها برومانسية هادئة أبو سنة، وسوف نترك أمر التلحين لتلاميذ الشيخ إمام، رحمة الله عليه. عَرِفْتُ أنّ حجازي كتب قصيدةً في عودة مبارك سالماً من حادث أديس بابا، إذاً، لماذا لم يفعلها للآن فاروق جويدة، وخاصّة إذا كان من المشكّوك فيه أن يفعلها أحمد فؤاد نجم، وقد يفعلها نجم في حضور موسيقي عالمي يدفع أتعابه كاملاً ساويرس، أمّا لو كانت أمّ كلثوم في صحّة جيدة، على مستوى الخيال بالطبع، وقد جاءها الأمر الملكي بركوب سفينة متوجهة إلى غزّة للغناء بالقرب من الفقراء هناك، كما ركب نجيب محفوظ، للمرّة الأولى والأخيرة، طائرةً بأمرٍ من جمال عبد الناصر متوجّهاً إلى اليمن، وهو ما لم يستطع فعله كي يلقي كلمته في احتفال "نوبل"، عند ذلك قد يأخذنا الخيال إلى مناطق أخرى، كأن تبيع السيّدة منيرة المهدية عوّامَتها أو يبيع محمد الكحلاوي عوامته على جانب شاطئ النيل، ثم تتوجه السيدة منيرة إلى بيت صغير في "الإمام الشافعي" وتصير قريبة من زوايا الأولياء الصالحين أو يترك الكحلاوي ما جناه كلّه إلى مسجده بالبساتين أو يصير قريباً من المسجد النبوي، عندئذ قد يسافر فرناندو بيسوا كي يتأمّل مسيرة البحّارة إلى رأس الرجاء الصالح، وتعود أمّ كلثوم إلى بيتها في الزمالك بلحنيْن من ألحان شيوخ غزّة. هنا، قد تتحمس الستّ منيرة المهدية لعودة ثانية إلى الغناء، ولكن تنصحها خادمتها "الشيخة لواطف" أن تعتني بقطّتها وتُجهّز نفسها للحجّة السابعة، وتذكّرها أنّ لها ذلك البيت القديم في باب اللوق، فكيف ضاعت منها حجّة البيت، وهل نسيتها في العوّامة حينما باعتها للضابط العجوز الذي اشتراها بتراب الفلوس؟

تسكتُ السيّدةُ منيرة المهدية وهي تنصتُ للستّ لواطف حين تعدّ لها القهوة في "الإمام الشافعي" في بيت قديم، وتتذكّر الأفدنة التي نصحها تاجر غلال بأن تشتريها في بساتين المرج. تضحك الستّ منيرة للمرة الأولى، وتؤكّد للواطف أنّها ذاهبة بعد الفجر كي تطوف بمقام السيّدة نفيسة، فهل في تلك الأيام أيضاً أو بعدها بقليل، كانت السيّدة تحيّة كاريوكا تعود من سهرة سعيدة مع الكبراء، ودقّ أطفال الملجأ بآلاتهم تحت بلكونتها، علّه كان يوم عيد الغطاس أو المولد النبوي، فحاولت الستّ تحيّة، رحمها الله، أن تقع بصعوبة على أموال سائلة في فساتينها، ولكنّها فشلتْ، وقبل أن يذهب أيتام الملجأ بعيداً، أرسلت مع خادمتها بعض الذهب القليل، وفي فجر اليوم التالي ذهبت لمقام السيّدة نفيسة.

كان يوهان غوته ملكياً بالطبع، وهو أكثر موهبةً من حجازي، وكان حجازي بالطبع أقلَّ سوداوية بآلاف الأطنان من إميل سيوران، فحجازي هو المُحبّ للحياة والسهر والغناء، ولكن سيوران، وإن لم يكتب القصائد في حروب رومانيا، إلا أنّه كان على يمين أدولف هتلر، وأنقذ حجازي الشعر والغناء من السوداوية بالجوائز والمهرجانات أو الفرح بعودة حسني مبارك سالماً من أديس أبابا، عكس سوداوية سيوران الثقيلة جداً. هل في صوت الدبّابات موسيقى ما؟ وهل في المدفع قافية ما؟ وهل في صوت الرصاصة أو تجريدة السيف يوجد هناك ذلك البحر الغامض الذي لم يصل إليه شاعر بعد في الشرق بعد ما مات الوزن والقافية؟

أحياناً، يتأمل الواحد ذلك الهامش، فيجده وكأنّه هو البحر تماماً أو هو اللّجّة الغامضة، وخاصّة حينما يغرق في اللّجّة الفقراء بلا سبب واضح أو معقول، اللهم إلا أن يكونوا في المشهد، فهل المشهد له تأثير السحر على روح ذلك الفنّان الوحيد والمسكين، والذي يموت في كلّ يوم ويترك بعض كتبه أو أغنياته أو آلة العود بعد ما تجهّم خشبه ونحلت أوتاره، بجوار قفطانه القديم المُعلّق، بعد أن ماتت زوجته، وتفرّق أولاده في البلاد، يعمل أحدهم بطانة في فرقة حفيد الشيخ الحريري، والثاني مات في مستشفى العباسية من سنوات؟ وحتّى ابتهالاته كلّها، ابتهالات الجدّ الكبير، مسحت برمّتها وسجّلت عليها "ماتشات" الأهلي والزمالك، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.