السياسة الغائبة في مصر

السياسة الغائبة في مصر

03 أكتوبر 2020
+ الخط -

"أي قرار تتّخذه الحكومة يجب أن يقبل المراجعة، إذا ثبت إضراره بفئة معينة. قرارات الحكومة ليست بمثابة كتابٍ مقدّس". كان هذا أحد التصريحات المتراجعة من المسؤولين المصريين أخيرا. وهذه المرّة كانت على لسان المتحدّث باسم مجلس الوزراء، المستشار طارق سعد، في سياق حديثه عن مظاهرات منطقة أطفيح في الجيزة الأسبوع الماضي. قال باحترام إن المواطنين كانوا "يعبّرون عن مشكلة فئوية تخصهم"، جوهرها أن المنطقة تعتاش على مصانع الطوب الأحمر (الطفيلي)، ولذلك تحوّل السكان الفقراء أصلاً إلى عاطلين بعد قرار وقف البناء في مصر ستة أشهر. كان الحل الفوري الذي أعلنه سعد هو التزام الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بشراء إنتاج المنطقة من الطوب. (لم يُشر لمصير استخدام هذا الطوب، فمشاريع الهيئة تستخدم الطوب الإسمنتي).

في سياق شبيه، خرج رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، ليؤكّد بشكل قاطع إنه لن يتم هدم أي منزل مخالف مسكون. وهذا في الواقع يعيد القضية بالكامل إلى وضعها السابق، فإذا كان السكان في المباني المخالفة لن يهدّدهم الطرد أو الهدم، وإذا كانوا بالفعل يحصلون على المرافق، سواء بشكل مخالف، أو في إطار التقنين الحكومي المعروف في مصر باسم "المقايسة"، فلماذا سيتجاوبون مع القانون أصلا؟

ولأنه يفهم ذلك توازى الإجراء مع إعلان تخفيضاتٍ كبيرةٍ على قيم التصالح الأصلية وصلت إلى 70% في بعض المناطق، حتى أنه تم توحيد السعر بكامل القرى على 50 جنيها للمتر، نزولا عن الحد الأقصى 200 جنيه، ومن المتاح تقسيطها على ثلاث سنوات، وأصبح الحديث الحكومي يحاول تقديم مغرياتٍ لا تهديدات، بأن التصالح سيعظّم من قيمة عقاراتهم ويسهل تداولها بالسوق.

هذه اللهجة مختلفة جذريا عن حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل شهر، حين وبّخ، منفعلا، المحافظين وقيادات وزارة الداخلية، ثم هدّد بنزول الجيش إلى كل القرى، لينفّذ الإزالات، مستخدما لفظ "الإبادة"! قبل أيام، ظهر السيسي نفسه في افتتاح مجمع مسطرد للتكرير، متحدّثا، بشكل مختلف تماما، عن عودة أعمال البناء قبل فترة الستة أشهر، كاستجابة للمواطنين، ووجّه الشكر لهم، ومؤكّدا أنه يقدّر "ظروفهم الصعبة".

السبب الوحيد لهذه التغيرات الدرامية رد الفعل الشعبي الذي تمثل في موجة مظاهرات عمّت قرى مصرية عديدة. وعلى الرغم من عدم وجود معلوماتٍ مؤكدة كافية عن حجم المظاهرات، لكن قواعد بيانات المعتقلين في الأحداث من جهات حقوقية توفّر رؤية أوسع، حيث وثقت المفوضية المصرية للحقوق والحريات نحو 600 سجين في 17 محافظة، ما يعني أن الحراك بالتأكيد شمل آلاف المصريين على الأقل، وفي نطاقٍ جغرافي واسع.

على مدار السنوات الأخيرة عمل النظام الحالي على تجريف السياسة في مصر بشكل لم تشهده في تاريخها. خلال عهد جمال عبد الناصر وجد كيان سياسي حاكم، هو الاتحاد الاشتراكي، وجرت داخله تنازعات أجنحة وتمثيل مصالح، وهو ما استمر وصولاً إلى الحزب الوطني الديمقراطي في عهد حسني مبارك، كما شهدت البرلمانات قدرا من التنافسية، سواء مع معارضين مسموح لهم بهامشٍ ما، أو مع مؤيدين تنافسوا لإثبات جدارتهم بدعم النظام شعبيا.

وفي السياق نفسه، جرى تراكم "مخالفات البناء" التي كانت الدولة تغضّ الطرف عنها عقودا، نظير مكاسب سياسية، وأيضا لأن الدولة أدركت أنها لا تقدّم إجابة عن السؤال الجذري بشأن تراجع ربحية النشاط الزراعي في مصر.

فجأةً، قرّر نظام السيسي تغيير المعادلة بمنطق تشديد الإجراءات التنفيذية فقط، وهذا حتى لو كان بحد ذاته جزءا من الحل، لكنه قطعا وحده لن يؤدّي إلا إلى طريق مسدود، إذا لم يلازمه تقديم إجاباتٍ على الأسئلة الاقتصادية والسياسية الأوسع.

ومن المؤسف أن الاستجابة الحكومية السريعة الحالية تعبّر عن ذكاء سياسي إجرائي أيضا، فيتم التراجع ضمنيا عن قانون التصالح، من دون أي تراجع على نطاق أوسع يطرح أي استجابة، ولو إصلاحية، لتغيير المسار الاقتصادي والسياسي الحالي، لتظل مصر عالقة بوضع الاستقرار الهش نفسه.