الحرب على الجبهة الثالثة

الحرب على الجبهة الثالثة

28 نوفمبر 2023
+ الخط -

بقدرٍ قليل من التجاوز والإيجاز والتعميم، يُعادله قسط وافر من الرغبة في تسليط الضوء على بعض المتغيرات المتراكمة داخل الساحة الخلفية لهذه الحرب المفتوحة، أول مرّة، على احتمالات سياسية فلسطينية واعدة، يمكن لنا التمييز بين ثلاث جبهات فضّ طوفان الأقصى أقفال أبوابها بضربة واحدة، ورسم باقتدار خطّاً فاصلاً بين زمنين في تاريخ الصراع الطويل، وذلك كله في إطار محاولة تستظهر لُباب الغاية المبثوثة في ثنايا هذه المقاربة لمخاض الحرب على الجبهة الثالثة.
ومع الأخذ بالاعتبار حقيقة أن هناك معارك أخرى فرعية متفاوتة الأهمية، جارية في المحيط الفلسطيني المجاور، على شكل جبهات إسناد ومؤازرة، إلا أنها لا تُقارن، بالقياس إلى الملحمة الكبرى في غزّة، حيث القاطرة التي تجرّ العربات على السكّة، وتهدر ملء الأبصار والأسماع على الشاشات، فيما الوقائع المتصاعدة يوماً بعد آخر في الضفة الغربية، المنذرة بانفجار أوسع، وأخطار أشدّ من قبل، تمثّل الجبهة الثانية، المتوارية بلا تواضع خلف المشاهد المروّعة في القطاع المليء بالبؤس والبأس والأنفاق والأبراج السكنية المهدّمة.
أما الحرب على الجبهة الثالثة (بيت القصيد في هذه المطالعة)، فهي جبهة الوعي والإدراك والمفاهيم، أي التفاعلات الجارية في فضاء الساحة الداخلية المقابلة، الناجمة عن الحرب التي وقعت يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول المجيد، واستمرّ زلزالها ستّ ساعات وانتهت في اليوم ذاته، مُحقّقة نتائج تأسيسية لن تمّحي أبداً، ولن تسقط من الذاكرة مهما طال الوقت، فقد جاءت مكتسباتها التاريخية أثمن بكثير من أعداد القتلى والجرحى والأسرى، ومخرجاتها أكبر من مدخلاتها، ومغزاها أهم من اقتحام نحو 50 مستوطنة وثكنة عسكرية في غلاف غزّة، حيث أتت التفاعلات الهائلة أوسع من حدود القطاع، وأعمق من معركةٍ غير مسبوقة في سجلّ الكفاح الفلسطيني، غيّرت وجه الشرق الأوسط، وقد تغيّر النظام الدولي، ليس من هيروشيما وبرلين، أو حتى من كييف، وإنما من غزّة هذه المرّة. فقد صنعت حرب 7 أكتوبر، وهي الحرب الهجومية الفلسطينية الأولى من نوعها على مدى مائة سنة، نقطة فارقة في مجرى الصراع الذي كان فيه زمام المبادرة دائماً بيد دولة الاحتلال، وحفرت في حيّز الوعي والمخيال العبري حقائق نهائية، لن تتمكّن آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة من إلغائها، وأرست سوابق لا سابق لها من حيث الشكل والمضمون، أهمّها سابقة اقتحام القلعة الحصينة، وإدارة الحرب من داخل الأسوار لا من خارجها، وحققت نتائج في فضاء الوعي الإسرائيلي لا تزال متفاعلة، منها أن القوة الإقليمية العظمى فقدت حصانتها الأمنية والعسكرية، سقطت هيبتها، كما انكسر غرورها، تحطّمت صورتها، تبدّد ردعها، فبدا ذلك كله بمثابة المسمار الأكبر في نعشها.
وأحسب أن الفشل الاستخباري، الذي يتم التذرّع به لتبرير كل الخسارات الإسرائيلية الفادحة، والتعلّل به سببا أوحد لما جرى في غلاف غزّة، ليس هو كامل القصة لكل هذه التخبّطات والتحوّلات الجارية في دواخل المجتمع المزروع بالقوة العارية، حيث يتّضح اليوم أكثر من قبل، لا سيما بعد الإخفاق المديد للقوات الغازية المتجحفلة في أحياء غزّة، وعجزها عن إنجاز أيٍّ من أهدافها المعلنة، أن إسرائيل مجرّد دولة على جناح طائرة حربية اميركية، وأنها، بدون السيطرة الجوية المطلقة هذه، ليست سوى دولة أخرى من دول العالم الثالث، وذاك على العكس من الصورة النمطية التي كوّنتها في الأذهان العامة عن مضائها الحربي وبأس أجهزتها الأمنية.
من المبكّر الحديث عما يجري على جبهة الوعي الإسرائيلي، قبل أن تضع هذه الحرب أوزارها، وخصوصا أن مفاعيل عملية كيّ الوعي لم تنته بعد، وأن دواخلها لم تخرج إلى السطح، بفعل الصدمة الاستراتيجية والرقابة العسكرية الصارمة والتستّر على الحقيقة المريرة، غير أن المخاض النهائي لمجتمعٍ عديم الصبر في الحرب الطويلة، قليل القدرة على تحمّل الخسائر في الأرواح والممتلكات، بات يعيش بنفسه ويرى بأمّ عينيه تزعزع الأركان الثلاثة، التي تقوم عليها دولة الاحتلال (الأمن والهجرة والاستيطان)، ما يرجّح الاستنتاج أن هذا المخاض سوف يُسفر، في وقت غير بعيد، عما أسفرت عنه الحروب الكبرى السابقة من متغيّرات عميقة الغوْر، ناهيك عما يجرّه الفشل، إن لم نقل الهزيمة، من عواقب وخيمة، ليس أقلها ازدياد حدّة القلق الوجودي، عدم الثقة بالنفس، والشكّ المصيري بمستقبل دولة، يُعيد بعض قادتها إلى الأذهان "لعنة الثمانين" من العمر، الراسخة في الميثولوجيا اليهودية.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي