الحرب على "أونروا" أو أعلى مراحل الوقاحة (2/2)

الحرب على "أونروا" أو أعلى مراحل الوقاحة (2/2)

14 فبراير 2024
+ الخط -

البحث عن سبب هذه الحماسة الإسرائيلية الاستثنائية لإلغاء وجود وكالة أونروا هو كالتساؤل عن سبب احتلال فلسطين، من النوع الذي لا تعرف من أين تبدأ جواباً عليه. مجلة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية اختصرت الأسباب الإسرائيلية بعنوان واحد مكثف وشديد التعبير: "أونروا" هي "الشاهد غير المرغوب فيه". لكن ماذا عن أميركا؟ هل فعلاً تريد قتل الوكالة الأممية وتصدّق تقريراً إسرائيلياً للاستخبارات تتهم فيه عدداً من موظفيها بالمشاركة في عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول؟

بداية مع التقرير الذي تسابقت بناءً على مضمونه أميركا و14 دولة أخرى من كبار ممولي الوكالة على قطع مساهماتها المالية عنها. ملف الصفحات الخمس الذي قدّمته الاستخبارات الإسرائيلية للإدارة الأميركية، وسرّبته في موازاة ذلك للإعلام الأميركي والبريطاني، "لا يحوي أي دليل على الادعاءات"، بحسب وصف القناة الرابعة البريطانية (channel 4)، وهي إحدى أهم قنوات التلفزيون في المملكة. التقييم نفسه حرفياً سبقتها إليه قناة سكاي نيوز، الإنكليزية طبعاً لا العربية.

عن الماضي القريب للحرب الإسرائيلية ضد "أونروا"، لا جديد حقاً يُضاف إلى مطالعة الزميل حيان جابر المنشورة في "العربي الجديد" في 4 فبراير/ شباط الحالي. أما إن عدنا قليلاً إلى الوراء، فلا تجد أثراً حقيقياً ملموساً لمشاريع حكومية كبيرة لإلغاء وجود "أونروا" إلا من إسرائيل وفي الحقبة السوداء لرئاسة دونالد ترامب (2016-2020). غير ذلك تقرأ كلاماً عاماً يعبّر عن كره استباقي لأميركا بهدف إثبات أنها ترغب فعلاً بإلغاء وجود الوكالة، من دون وجود أدلّة حقيقية على ذلك. مثلاً تقرأ للأستاذة الجامعية في فرنسا هناء جابر في "لوموند ديبلوماتيك" أيضاً، عدد مارس/ آذار 1994، أن "بعض الدول لم تنتظر انتهاء ولاية أونروا في عام 1996، ذلك أن الأميركيين والإسرائيليين اقترحوا ببساطة إلغاء الوكالة بذريعة أن مهمّتها لم تعد مجدية في رعاية اللاجئين بينما وضع هؤلاء اللاجئين لم يُحل بعد من وجهة نظر القانون الدولي". لا نفهم من هناء جابر كيف ومتى وأين اقترحت أميركا إلغاء وكالة أونروا (قبل ترامب)، إلا إن كان الخلط حاصلاً بين أميركا كدولة، ونواب أو شيوخ في الكونغرس. في السياق نفسه، يكتب آلان غريش في ديسمبر/ كانون الأول عام 1998 في المجلة الفرنسية الشهرية المحترمة (كان رئيساً للتحرير) أن الأزمة المالية للوكالة آنذاك "تتعلق بخطّة مدروسة من أميركا وإسرائيل لتصفية أونروا". لكن غريش لا يسند كلامه عن خطة أميركية لإزالة الوكالة إلا بالقول إن "وجودها شاهدٌ على استمرار مأساةٍ يريد البلدان (أميركا وإسرائيل) التخلص من طيفها".

لكن هذا الكلام العام والذي قد يكون صحيحاً نظرياً، لا تلاقيه الوقائع في منتصف الطريق، ذلك أن تلك الفترة التي يتحدّث عنها الصحافي الفرنسي اليساري من جذور مصرية يهودية، الذي يجب أن نحسد أنفسنا على وجوده بين المدافعين عن القضية الفلسطينية في العالم، شهدت رفع واشنطن حصّة مساهمتها في تمويل "أونروا" من 600 ألف دولار عام 1994 إلى 365 مليون دولار (لدى وصول ترامب إلى الرئاسة وقطعه تمويل بلده عن الوكالة). وتلك الفترة بالذات، فلنقل بين 1993 و2002، أي بين مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو وصولاً إلى خريطة طريق جورج بوش الابن لإقامة دولة فلسطينية، عرفت ذروة التعويل الأميركي على إنهاء القضية الفلسطينية، بشكل "عادل"، وفق الفهم الأميركي للعدل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكان لـ"أونروا" دور مهم تؤدّيه في مشاريع السلام تلك لو كُتب لها النجاح، أي أن أميركا ضاعفت تمويلها لـ"أونروا" في تلك المرحلة تعويلاً منها على مساهمتها المفترضة في بناء السلام تربوياً واجتماعياً واقتصادياً.

لا جواب حاسماً عن سبب مشاركة إدارة جو بايدن اليوم في الحرب الإسرائيلية على "أونروا" مع إصرارها اللفظي المجاني على حلّ الدولتين، وقد أصبح هذا الشعار في فم بايدن يعني عكسه. الأهم من معرفة سبب المشاركة الأميركية، معالجة مصيبة قطع التمويل عنها فوراً وقبل نفاد أموالها في نهاية شهر فبراير/ شباط الحالي. وفي موضوع المال، لا مكان للفلسفة وللتنظير: المساهمات المالية لمجموع البلدان العربية لم تعد تتجاوز منذ 2021 الـ3% من موازنة المنظمّة، وهذا ملمح أساسي من الوقاحة الكبرى التي ترافق الحرب على "أونروا" هذه الأيام.

أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري