التوجيهي في غزّة بين عبّاس ودحلان

التوجيهي في غزّة بين عبّاس ودحلان

27 يوليو 2023
+ الخط -

تظهر الطالبة صغيرة السن آية عزّام، وهي من قطاع غزّة، في فيديو جرى تداوله على نطاق واسع، وهي تتحدّث بأسى بالغ بينما دموعها تنهمر على وجنتيْها، فقد أنهت الثانوية العامة بمعدّل 99% في الفرع العلمي، لكنّ أحداً لم يُبادر إلى تهنئتها، ربما لأنها من عائلةٍ فقيرةٍ كما تُرجّح هي، فتُبادر هي إلى الاحتفاء بنفسها بكتابة معدّلها المرتفع على قطعةٍ من الخشب كانت قد رافقتها خلال دراستها التي تُوّجت بمعدّلٍ يحلم به آلاف الآباء في المنطقة التي يشكّل "التوجيهي" (الثانوية العامّة) كابوساً لها.

ما إن شاع فيديو آية حتى هرع بضعة شبّان من منطقتها لابتياع الحلويات والتوجّه إلى بيت أهلها لتهنئتها. ويطمئنها فيه أحد الصحافيين بالقول إنها ليست وحدها ولن تكون، وإن من حقّها أن تلتحق بالجامعة لدراسة الطبّ وتتخرج. ولاحقاً تنقل تقارير إخبارية محلية أنّ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس "تبنّى" تدريسها، والمقصود شمولها بمنحة دراسية تقدّمها مؤسّسات السلطة، أي أنّ تكاليف دراستها الطبّ في جامعة الأزهر في غزّة لن تكون من الأموال الخاصة للرئيس عبّاس، على خلاف ما قد توحي به صياغات الخبر.

أهو استثمار سياسي في معاناة أهالي القطاع؟ لعله كذلك، ولكنه تحوّل حتماً إلى جزء من تنافس على التمثيل بين تياراتٍ سياسيةٍ فلسطينية تتذكّر أهالي قطاع غزّة في مواسم ذروات الاهتمام بهم، مثل موسم إعلان نتائج "التوجيهي". يفعل ذلك عبّاس ودحلان (محمد) وسواهما، بعيداً عن مأسسة المِنح الدراسية التي تُقدّم لطلاب غزة، وبعضها من السلطة الفلسطينية نفسها وبعضها الآخر تقدّمه دول في المنطقة. وكما حرصت الرئاسة الفلسطينية على تصدّر المشهد بعد فيديو آية عزّام، قام قائد الأمن الوقائي السابق في قطاع غزة محمد دحلان بالأمر نفسه، فبعد حصول الطالبة حنين المدهون على معدل 99.6%، بثّ تلفزيون "الكوفية" التابع للرجل تقريرًا عن الطالبة تضمّن التذكير بزيارة وفدٍ مما يسمى تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، إلى منزل الطالبة. وهو فقير جداً وصغير، ويتكون من غرفتين بسقفٍ من الزينكو. وهاتف دحلان الفتاة خلال زيارة الوفد، وهنّأها ووعد بإدراجها ضمن المنحة الإماراتية لإكمال دراستها.

ليس ما سبق سوى جزء صغير مما يظهَر من جبل الجليد، حيث الصراع يحتدم بين أطراف سياسية لتصدّر المشهد قبل أن يتراجع هذا التنافس وتعود الأمور إلى طبيعتها، وتلك قاسية، وتفيد بتقديم نحو 38 ألف طالب غزيّ امتحانات الثانوية العامة، خلال هذا العام فقط، لينضمّوا لاحقاً إلى جيشٍ من المتعطّلين، ممن لا يجدون عملاً على الإطلاق. وأعداد هؤلاء تقدّر بنحو 300 ألف خرّيج، لا يجدون فرص عمل في وطنهم، ولا يستطيعون العمل في الخارج على الإطلاق لأسبابٍ واهية، تتغطّى بـ"خرافة" تثبيت الفلسطينيين في أرضهم، وهي مجرّد غطاء لمحاصرتهم وإفقارهم وإضعافهم في صراعهم الوجودي مع إسرائيل.

تتعذّر دول كثيرة في المنطقة بقرارات أصدرتها جامعة الدول العربية لتبرير عدم استقبالها الغزّيين للإقامة أو العمل، لكن هذه القرارات لا تمنع هذه الدول من المبادرة إلى دعم صمود الفلسطينيين في غزّة باستقبال كل واحدةٍ منها بضع مئات من الطلاب في جامعاتها، والتوسّع في تقديم المنح الجامعية لهم داخل القطاع نفسه. وهذا يوفّر بديلاً كريماً لهؤلاء للنجاة من ذهنية المن والتمنّن التي تحكم تصرّفات بعض قيادات الفلسطينيين قبل غيرهم. وهذه مفارقةٌ مؤلمةٌ جداً، فإذا كان الطالب الحاصل على 99% في الثانوية العامة يُضطرّ وأهلُه إلى شكر هذا القيادي أو ذاك لمجرّد توفير منحة دراسية له، وهي تُقدّم في دول أخرى من دون أن يضطر الطلاب حتى لمعرفة اسم رئيس دولتهم، فماذا نقول عن الأمر في حالة وئام الأسطل التي بُترت قدمُها خلال العدوان على غزّة عام 2014، وكانت في التاسعة من عمرها آنذاك، لتحصل هذا العام على معدل 88%، وهي متمسكة بحلمها القديم بدراسة الطب والتخصّص في الأطراف الصناعية؟ هل ندعو جامعة الدول العربية إلى اجتماع طارئ للبحث في سبل تأمين منحة جامعية لها، أم أن الأمر قد يستدعي تدخّلاً من الأمم المتحدة؟ً

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.