إنها غزّة الكاشفة

إنها غزّة الكاشفة

30 أكتوبر 2023
+ الخط -

يُعرف الرجال بالمواقف، ولا تُعرف المواقف بالرجال، فالأحداث الكبيرة تكون كاشفةً حقيقة الأطراف وجوهر المواقف. وما يجري في قطاع غزّة منذ ثلاثة أسابيع كان كفيلاً بتعرية أطراف كثيرة وكشف مواقفها، خصوصاً بعد أن بدأت إسرائيل عملياتها البرّية وكثّفت غاراتها الجوية وأعمال القصف الوحشي على مختلف أراضي القطاع، بدءاً من مساء يوم الجمعة الماضي. وبينما تمكّنت الأمم المتحدة ممثلة في جمعيتها العامة من تمرير قرار يدين سلوك إسرائيل غير الإنساني بأغلبية 120 دولة، فإن قلّة متبقّية من المجتمع الدولي، وهي تحديداً في الكتلة الغربية منه، تعاملت وكأن شيئاً لم يكن. بل هناك من يجد لتل أبيب أعذاراً ويمنحها مبرّر "الدفاع عن النفس" رخصة مفتوحة للقتل من دون تمييز.
بعض تلك المواقف معروف من قبل، غير أن طوفان غزة أسقط عنها ورقة التوت. وتحديداً موقف الغرب الذي يتشدّق صباحاً ومساء بالمبادئ الأخلاقية والقيم العليا وحقوق الإنسان في أوكرانيا وقبلها في الصين. وأسقطت المقاومة الفلسطينية ذلك القناع وكشفت المواقف الزائفة والمعايير المزدوجة، فلا حديث غربياً عن حقوق الإنسان الفلسطيني، ولا تنديد أو حتى إشارة إلى حملة الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون الأبرياء منذ أكثر من 20 يوماً. ثم عاد الغرب ليؤكد موقفه المهين، في قمّة القاهرة للسلام في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، حيث أعلن بوقاحة انحيازه الكامل إلى جانب إسرائيل. من دون أي اعتبار أو التفاتةٍ إلى حياة الفلسطينيين وآدميتهم، أطفالاً كانوا أو نساء أو شيوخاً. وعربيا، اضطرّت مصر إلى تحمّل مسؤولية تمرير المساعدات عبر المنفذ الوحيد المتاح من خلال معبر رفح، ووسط مواقف عربية اتصفت بالتعاطف المعنوي مع المأساة الإنسانية في غزّة.
ثمّة أطراف أخرى تؤيد الفلسطينيين أو تتعاطف معهم، لأهداف مصلحية ولأغراض لا صلة لها بالمبادئ والقيم الأخلاقية، وإن ادّعى بعضها غير ذلك، فلا مكان في حسابات روسيا مثلاً للمرجعية الدينية أو لحسابات الأخوّة أو حتى للقيم الإنسانية المجردة، فهي تدعم الفلسطينيين حالياً في إطار استنزاف واشنطن والضغط على حليفتها إسرائيل التي لم تكن مواقفها في الأزمة الأوكرانية على المستوى المأمول روسياً. وينطبق الأمر نفسه على إيران وتركيا، مع فارق مهم يتمثل في وجود مرجعية إسلامية يجرى استخدامها وتسويقها إعلامياً مظلة لتأييد الفلسطينيين. وقد تتوافق تلك المرجعية مع حسابات المصلحة والنفوذ لدى طهران أو أنقرة في تحويل ذلك التأييد السياسي إلى خطوات عملية. وهو ما ألمح إليه الرئيس التركي رجب أردوغان عندما هدّد باستخدام القوة العسكرية إذا تفاقم الوضع في غزة. وأشارت إيران أيضاً إلى المعنى نفسه بتحذير إسرائيل من أن عملياتها العسكرية قد تُفضي إلى توسيع نطاق الحرب ليشمل أطرافاً أخرى. ومن المثير أن أياً من مثل هذين الموقفين لم يصدُر عن دولة عربية واحدة، لم تقترب من ذلك المعنى ولم تُشر، ولو من بعيد، إلى مجرد التفكير في تحرّك عملي أو أي نوع من الضغط على إسرائيل. ليس بعمل عسكري بالطبع، فهذا بعيد عن الخيال العربي، وإنما فقط بقطع للعلاقات الاقتصادية مع إسرائيل أو وقف للتبادل التجاري أو حتى تعليق الرحلات الجوية. بل ولا حتى سحب للسفراء أو استدعاء سفير الدولة العبرية وتوبيخه، أو أيّ من أشكال الاحتجاج الدبلوماسي خالي المضمون.
لقد كشف طوفان غزّة عن واقع مؤلم ومخز. وأحياناً يكون المكشوف معروفاً مسبقاً، لكن تأكيده يظلّ مدعاة للأسى على ضميرٍ مات والحسرة على إنسانية وُئدت.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.