أَنْ نتذكر معركة الكرامة

أَنْ نتذكر معركة الكرامة

22 مارس 2014
+ الخط -

أَن نستدعي معركة الكرامة إِلى البال، في ذكراها السادسة والأربعين، يعني أَن نساهم، بنزرٍ هيّن، في حماية تلك الواقعة، الشديدة الأهمية في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، من النسيان، ولا سيما أَنه صراعٌ لم يعد يحظى باسمه هذا في وسائط الإعلام ومناهج التعليم العربية، كما أَنَّ التذكير بمعركة الكرامة التي خاضها الجيش الأردني، ومعه فدائيون فلسطينيون، ببسالةٍ، يُساهم، بنزرٍ هيِّن أَيضاً، في الانتصار لوجدانٍ عربيٍّ بات مستهدفاً بإزاحته عن قيمٍ يجدر أَنْ تبقى مصانةً من الهزء والتبخيس والتشنيع، مهما أَصاب الأمة من رداءات شديدةِ الحدّة في وضوحها. ومن أولى هذه القيم حق مقاومة المحتلين الإسرائيليين، والالتفاف حول كل مَن يحمل سلاحاً في مواجهة عدوان هؤلاء، ومنها أَنَّ درساً بليغاً توفره "الكرامة"، موجزه أَنَّ الهزيمة مهما كانت باهظة، ولو من طرازٍ مدوٍّ مثل جائحة 1967، لا تعني الاستسلام لنتائجها، باعتبارها قَدَراً لا رادَّ له، وأَنَّ إِرادة المواجهة المحصّنة بقرارٍ سياسيٍّ يقظ ضرورةٌ ملحّة للأمم والأوطان والشعوب، لا سيما إِذا كانت هذه مهددة. وفي البال أَنه قيل لنا، في دروس الإنشاء إياها، إِنَّ إِسرائيل شوكةٌ في خاصرة الأمة العربية، وهذا صحيح تماماً، وإِنْ استجدّت أَكثر من شوكة لاحقاً، على أَكثر من خاصرةٍ للأمة نفسها التي يُراد لها أَن تصير أمماً، تتصارع الهويات الثاوية فيها.

أَرادت إِسرائيل، بعد شهور على انتصارها في ستة أَيام (أَو ست ساعات؟)، على ثلاثة جيوش عربية، باحتلالها أَراضٍ من ثلاثة أَقطار عربية، احتلال المرتفعات الشرقية لوادي الأردن، وضرب الجيش الأردني الذي كان يوفر حمايةً وإسناداً للفدائيين الفلسطينيين في الأغوار. أَرادت ذلك، مدفوعةً بزهو ذلك الانتصار، لكنها واجهت مقاومةً "أَعنف مما كانت تتوقّع"، بحسب وثائق إِسرائيلية وصحف غربية. وقتل في المعركة، التي استمرت خمس عشرة ساعة، مئتان وخمسون من جنودها، وعلى ما في أَرشيفها، لم تتمكن إِسرائيل من سحب كثيرين من قتلاها في الأَثناء، وطلبت وقف إِطلاق النار ظهيرة ذلك اليوم الاستثنائي في تاريخ وحدة الشعبين الأردني والفلسطيني، ما رفضه الراحل، الملك الحسين، ما دام جندي إسرائيلي واحد في شرق الأردن.

تشهد بلدة الكرامة، هناك، على روعة ذلك النهار، والذي كان من نجومه المضيئة رجل اسمه: مشهور حديثة الجازي، رحمه الله. كان قائد الفرقة في الجيش الأردني التي صدت العدوان، وكان مؤمناً بتوجيه كل البنادق إِلى إسرائيل. كان ذلك اليوم (البعيد؟) يوماً لحركة فتح، ومَن معها من مقاومين، ممّن يلبسون الكاكي، وينصرفون إلى إقلاق إِسرائيل واستهداف أَمنها. وأَنْ يؤتى، هنا، على ذلك، لمناسبة معركة الكرامة، فذلك لا يُعمّي على الاختلال الفادح الذي استجدَّ تالياً، وأَصاب العلاقة البهيّة بين الجيش الأردني والفدائيين، فكانت التفاصيل المعلومة لاحقاً، في "أَحداث أيلول" وغيرها. ومن المفارقات البائسة أَنَّ العنتريات الفلسطينية إِياها حالت، إلى الآن، دون إنجاز مراجعةٍ فلسطينيةٍ مسؤولة لتلك الأحداث، لماذا جرت، وما إِذا كان ممكناً تجنبها؟. ولا يُنسى أَنَّ العمل الفدائي انتعش كثيراً بعد معركة الكرامة، وإِظهارها بسالة المقاومين، لا سيما إِذا ما عاونتهم مظلةٌ عسكرية نظامية.

تأخذنا ذكرى معركة الكرامة إِلى زوبعة ذلك كله وغيره، ويجوز أَنْ يُحكى كل شيءٍ عما أَعقبها، وأَضرّ بمنجزها، لكن الأَجدى، وبين ظهرانينا، الآن، ماركسيون يتوهمون أَنهم مؤتمنون على الهوية الأردنية وحمايتها من الديموغرافيا الفلسطينية، أَن تعرف أَجيالٌ، فلسطينية وأُردنية، وعربية أيضاً، أَنَّ قيماً نفتقدها في أَيامنا الركيكة هذه تحققت هناك في بلدة أُردنية اسمها الكرامة، وفي جوارها، على مقربةٍ من فلسطين، حماها الله هي الأخرى من النسيان.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.