"أسرار سويسرية" .. شعاع ضوء آخر

"أسرار سويسرية" .. شعاع ضوء آخر

26 فبراير 2022
+ الخط -

قبل أكثر من عام، كان الصحافي المسؤول عن البريد الإلكتروني لصحيفة زود دويتشه تسايتونغ، الألمانية، على موعد مع حدث نادر. تلقى رسالةً من مصدر مجهول، يعرض تسريباَ ضخماً للبيانات البنكية السرّية من بنك كريدي سويس السويسري عبر آلية تواصل مؤمّنة. اتخذ فريق الصحيفة القرار التحريري بالنشر بعد فحصٍ لمصداقية البيانات، وكذلك بعد التأكد من أن المصدر المجهول لم يطرح أي شروط ولم تدفع له الصحيفة أي مقابل مالي.

وأمام ضخامة حجم المواد، التي شملت بيانات أكثر من 18 ألف حساب في العالم، تضم أكثر من مائة مليار دولار، قرّرت الصحيفة مشاركة التسريب مع إحدى مؤسسات الصحافة الاستقصائية العابرة للحدود، والتي راكمت خبرات واسعة أخيرا، مع تكرار أمثال هذه التسريبات.

وقع الاختيار على مؤسسة "مشروع تتبع الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود"، والتي تولت إدارة المشروع الضخم، الذي عمل عليه أكثر من 160 صحافي في العالم، ومنهم كاتب هذه السطور، وإنْ تقطّعت مشاركتي بعد تطورات وضعي الصحي.

كانت أول الملاحظات تأمل أن هذه إضاءة بسيطة أخرى لا أكثر. إذا كان هذا ما يظهر في بنك واحد فقط، في دولة واحدة فقط، فما هو الحجم الكامل لجبل الثلج المغمور؟ ملاحظة ثانية لافتة، أن أغلب الأسماء العربية مرتبطة بأنظمة ما قبل الربيع. حين ألقيت أول نظرة قبل عام، وجدت أن المواد تغطي بعض سنوات ما بعد 2011، فتفاءلت بوجود أسماء حديثة، إلا أنه سرعان ما ظهرت أمامي أسماء رجال حسني مبارك وبشار الأسد ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح، وليس الأنظمة الحالية. إذن، الاستنتاج المنطقي أن ثمّة آليات جديدة جرى التوجه إليها، لتجنب تكرار ما حدث من تجميد للأموال.

قد تكون البدائل محلية أو إقليمية، أو دولاً أكثر تساهلاً، كما ظهر سابقا في شبكات نظام الأسد المالية وأصولها المملوكة في روسيا وبيلاروسيا، وقد تكون تلك الأماكن دولاً غربية رئيسية وفرت آلياتٍ سرّية جديدة، كما ظهر، أخيرا، في إطار تسريب "أوراق بندورا" الذي شمل ملايين الوثائق من مزوّدي خدمات تسجيل الشركات في الملاذات الضريبية، حيث كشفت عن موجة جديدة نحو ولايات ساوث داكوتا ونيفادا الأميركية وغيرها. ذلك فضلا عن أن مشروع "أسرار سويسرية" كشف كيف طوّر البنك نفسه من آلياته حديثاَ، عبر حيلة جديدة "قانونية". صحيح أن "كريدي سويس" توجّه، تحت ضغوط دولية، إلى إلغاء خدمة "الحسابات المرقّمة" سيئة السمعة، حيث كان يوفر حساباتٍ لا ترتبط بأسماء، إلا أنه حين تظاهر صحافيون من المشروع أنهم يمثلون مستثمرا أفريقيا ثريا، عرض موظفو البنك في اتصال هاتفي، (وليس رسالة مكتوبة) آلية "الصناديق الائتمانية"، حيث سيختفي اسم المالك الحقيقي تماما، وسيجري وضع أسماء بعض موظفي البنك على ذلك الكيان القانوني كمساهمين ومديرين!

أرسل المصدر المجهول للتسريب بيانا تحت عنوان "لماذا فعلتها؟"، قال فيه إن قوانين السرّية المالية السويسرية "غير أخلاقية"، وأنها تؤدّي، في النهاية، إلى تنفيذ "حيلة روبن هود العكسية"، حيث تصبّ أموال الدول النامية إليها ، حارمةً شعوبها الفقيرة من مقدّراتها. وبينما أمكن للدول الغربية في السنوات الأخيرة تطوير آليات لمكافحة تسرّب أموالها، مثل "قانون فاتكا" الأميركي، أو اعتماد الدول الأوروبية "معيار الإبلاغ الضريبي المشترك"، فإن دولنا العربية ظلت بعيدةً تماما عن ذلك، في ظل تجاهل يرقى إلى التواطؤ من المشرّعين الغربيين.

وبعيدا عن الجانب السياسي والاقتصادي، من المثير للتفاؤل متابعة كيف طوّرت الصحافة العالمية من إمكاناتها وآلياتها سريعا بدورها في السنوات الأخيرة. لم تعد كافية الخبرة الصحافية التقليدية للمؤسّسات والأفراد، بل تشمل تلك المشاريع إمكانات تقنية متقدّمة يمكن بها أرشفة هذا البحر الشاسع من المواد وتنظيمه، وكذلك تولّى خبراء تقنيين مهام التأمين المعقدة للمواد وللمشاركين، فضلا عن حاجة الصحافيين لخبرات قانونية واقتصادية، صار متوفراً لها اليوم مراجع وتدريبات متخصصة، لاستخدام أدواتٍ كان بعضها سابقاً حكرا على رجال الأعمال أو المحاسبين.

وما زال الطريق طويلا للغاية، في معركةٍ ميدانها العدالة العالمية لا أقل!