وداد سكاكيني في أسوان: كيف يتجاهل شعراء مصر كل هذا الجمال؟

04 ديسمبر 2021
رحلة نيلية في أسوان عام 1948 (Getty)
+ الخط -

تعد وداد سكاكيني رائدة من رائدات الأدب العربي، ومن الداعيات إلى حقوق المرأة، وهي مولودة في صيدا اللبنانية عام 1913، وتخرجت في كلية المقاصد الإسلامية في بيروت، واتجهت إلى التعليم، حيث أمضت فيه عشر سنوات

يكاد أدب الرحلة يقتصر على الرجال، إذ يندر وجود نساء كتبن فيه لأسباب شتى، منها القيود الاجتماعية المفروضة على المرأة خلال عهود طويلة، ولم يكن مألوفاً أن تسافر المرأة قبل عشرينيات القرن العشرين وحدها إلا ما ندر، ومن هذا النادر ثمة نساء كتبن عن تجاربهن الرحلية بشكل مختصر حيناً أو مطول في أحيان نادرة.

من هؤلاء الأديبات والناشطات العربيات وداد سكاكيني، التي قامت برحلتين إلى العراق ومصر في أربعينيات القرن العشرين؛ دونت شذرات منهما في مقالات صحافية نشرت في بعض مجلات ذلك الزمن.


دهشة مصر

عاشت الكاتبة سكاكيني معظم حياتها في دمشق، وتوفيت فيها في العام 1991، وقد امتازت كتاباتها بالجزالة، واللغة الرفيعة، وهذا ما نلمسه في نص رحلتها إلى أسوان في ربيع العام 1945، حيث استهلت النص بمقدمة مسجوعة غير متكلفة تعبر عن سعة قاموسها، وسلاسة عبارتها، وتمكنها من ناصية اللغة الأدبية حيث تقول: "جئت مصر من الشام في يوم وبعض يوم، تخب بنا مراكب الحديد، وأين منها مطايا البيد! حتى بلغنا القاهرة فطالعتنا مواكب النخيل على لمحات النيل، وقد غمرت الآفاق شمس حمراء ما زالت منثورة الغرر، وهاجة الضياء، حتى ألقى بنا القطار على محطة باب الحديد".

وتضيف: "دخلت مصر يتنازعني الوجوم للغربة، والشوق لبلدة طالما هفا الخيال إليها، واستقرت بها نواي وقرت بها عيني، فتغمرت من النيل، واستذريت بظل المقطم كما قال الشاعر، وقد طوفت بحدائق مصر ومغانيها، وما فاتتني مفاتن الجزيرة ومباهج الطبيعة فيها، ثم وددت أن أملأ العين من ريفها، وأستمتع بنيلها الذي يفيض على جنباتها، فمضيت في رحلة فنية إلى أسوان، أنشأها المعهد العالي لمعلمات الفنون، وهو بنية مجد للمرأة العربية، وجامعة ثقافة للمصريات، أضفت عليه عميدته الفضلى السيدة عائشة إقبال راشد من اسمها ونفسها رشداً وإقبالاً".

سبب القدوم إلى القاهرة هو انتقال زوجها زكي المحاسني إليها بقصد إكمال دراسته الأكاديمية والحصول على شهادة الدكتوراة في الأدب العربي، وقد عينته الحكومة السورية آنذاك ملحاً ثقافياً في سفارتها بعيد الاستقلال في العام 1946، وهو ما أتاح للزوج والزوجة الإقامة في مصر مدة عشر سنوات.


نحو أسوان

تقول الأديبة سكاكيني التي عملت مدرسة في ذلك الوقت في المعهد العالي للمعلمات في القاهرة: "غادرنا القاهرة مع بضع عشرة فتاة من قسم الفنون الجميلة بالمعهد، تحدوهن صديقتاي الأستاذتان إنعام سعيد وعزيزة يوسف، وهما في طليعة من أنجبت مصر من بناتها اللاتي ضممن في الجوانح حب الوطن إلى ثقافة الغرب الذي نزلن معاهده سنين للقانة الفن ونباهة الفكر، ثم عدن إلى الكنانة يطبعن الفتيات المتعلمات بمياسم التجديد، ويكشفن عن مواهبهن بالتوجيه والتسديد. فهذه محطة باب الحديد تلقاني مرة ثانية، تحت عشية غير مبتئسة ولا واجمة، منيرة بمصابيح تكسف الشمس بسطوعها، فأين نفسي الفرحة في هذه الأمسية من قلبي المحزون حين بلغت مصر منذ عام، والوحدة مهيمنة علينا؟".

وقد امتدحت شوارع وأبنية القاهرة في ذلك الزمن حيث قالت: "الآن أدرك عظمة المكان، وأحسبني لولا العمائم البيض تلوح بها الهامات، والجلابيب الضافية تخفق فيها القامات، لكأني أبرح عاصمة في ديار الغرب، فقطار يؤج ويعج، وناس يغلي بهم الزمن يخفون إلى الركوب، أو ينزلون من التوديع".

وتضيف: "دق ناقوس الرحيل، فوجف القطار ثم سار تحت جنح الليل، وباتت مصر خفية في طي الدجى عنا، وتغورت المصابيح كلما ابتعدنا، حتى عطفت بنا الدروب وهدهدنا في مجاثمنا دوي القطار وهدير آلاته، وكاد النعاس يأخذ بمعاقد جفوننا لولا أنس الرفيقات. ولولا مرح الطالبات واستفاضة النكتة على أطراف ألسنتهن، لغططنا في سبات عميق كما يغط الطفل حين يترجح به السرير".

وفي وصفها للطريق تقول: "كنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنطل من المنافذ، والركب يسري كسهم نزعه العلم عن قوس الحضارة، فنمسك رؤوسنا عن صفقة الريح، ونحبس شعرنا عن التشعيث، وهاج فينا الحنين لمرأى النيل حين سكب القمر عليه شعاعه، فانسحب كسيف من فضة مسلول على أرض مصر ليدفع عنها عاديات المحن".


مناظر جميلة

والرحلة إلى أسوان في القطار، تعبر كامل الصعيد المصري، وتستغرق وقتاً طويلاً، وهو ما أتاح للكاتبة أن تتأمل في المناظر التي تراها: "أسفر الصبح على رؤوس النخيل يلتمع الندى على أوراقه الخضر، وتستدير سعفه فتبدو من بعيد كالقباب الصغيرة، ومن قريب كالمراوح المنشورة أو المظلات المرفوعة، وصاغت لنا ذكاء وجه النيل بالذهب فتألقت تلاميعه وتلوت على حواشيه، ولاح كمرآة مجلوة تتمرى بها الطبيعة على نشيد طيبة الذي كان رقراق الماء، يردده لحناً مكروراً منذ الأزل باقياً على الأبد".

وتقول في وصف الريف الصعيدي، معرجة على الظلم الذي كان يتعرض له الفلاح المصري من ملاكي الأراضي: "أخذ يشارفنا الريف بصوره المتشابهة وألوانه الكابية، وقد انطبعت بيوته بطوابع الروح المصري القديم، فلاحوه سمر الوجوه عراض المناكب، سكبوا على الأرض عرق الجبين، وعركوها بكدح الأيدي، وطفحت شفاههم بالمباسم لصباح وضاح. لا يسأم القروي الفرحة بلقائه، ولو لقي هذا الفلاح من سيده بسمة الشاكر ورحمة المالك وكان أبي الخنوع، مطبوع الميل للنظافة متقبلًا للإصلاح، لعد أعز أمثاله في الدنيا، لأن ضفاف مصر الخيرة أجود أرض للزرع والإنبات".

وتصف نساء الريف اللواتي كانت تصادفهن في المحطات الكثيرة بقولها: "أما نساء الريف فوديعات الوجوه منتصبات القامات، يستقبلن وجه النهار غاديات بالجرار على رؤوسهن، ثم رائحات من مسارب النيل، وهن يشاركن الرجل في خدمة الأرض والأنعام".


تذكُّر الشام

تستذكر الأديبة سكاكيني بلاد الشام على طول طريق سكة القطار من دمشق إلى بيروت، حيث تقول: "كلما وقف بنا القطار على ديار ذكرني بأرض بلادي، فمن مشارف الشام (دمشق) إلى مرابع بيروت يقف أولاد القرى تلقاء القطار في المحطات، بأيديهم سلال أو قصاع ممتلئة بالفواكه، ينادون على بيعها، وصنوف الباعة طوافون بخبز وأدام على سفر بغير زاد". وتقول إنها لم تجد مثل هذا في مسيرها على درب أسوان.

وتصل أخيراً إلى المدينة فتخبرنا عن انطباعها الأول حين رأت الآثار العظيمة متذكرة رحلتها بالقطار من حلب إلى بعلبك: "جزنا أرضاً في جوارها الأقصر الحافلة بالآثار، فأمعنت التحديق في تلك الجنبات التي عاشت في تضاعيفها وجوفها خيالات الأقدمين وأطيافهم، وبقيت روعة الأطلال والآثار تدل عليهم، وقد برزت من بعيد تلك العمد الفرعونية ولاحت من بين أعمدة النخيل فقلت: يا لله كأني الساعة أمضي بقطار حلب فأمر ببعلبك، وأرى عمد هيكلها الروماني تتراءى من بعيد من بين أشجار الجوز والمشمش، ورحت أذكر أرضاً على وجه الشرق تعاورت عليها الأمم من رومان وإغريق وفراعنة وفينيق، حتى بسط عليها الإسلام جناح الأمن والرحمة ووهبت لها العروبة لغة القرآن، فكان عليها خير أمة أخرجت للناس، وما نقلني من تهاويل هذا الخيال سوى بشرى الرفيقات باقتراب الوصول إلى أسوان".

وتقول إن "أسوان بلدة دون سعة صيداء - لبنان، تساير ضفاف النيل في مبانيها وحدائقها، وإنها لشعرية الطبيعة، هادئة المقامة، هفهافة النسيم. على رؤوس رجالها عمائم بيض لاثوها كأنهم الهنود، ونساؤها ملتفات بالسواد ضاربات على وجوههن بخمر مصرية، سجنت الخدين وأطلقت العينين".


الانبهار بالطبيعة المصرية "الجالبة"

في وصفها لرحلة نهرية في أسوان، تلفت وداد سكاكيني إلى قلة القصائد التي كتبها شعراء مصر عن النيل، وتقول: "هنالك دعينا إلى متنزهات على النيل، فبدا ثمة نهر مصر كما يسميه أهلوها بحراً رحيب الصفحة مترامي الساحة، وحملنا ذات صباح مركب بشراع مال بنا مترنحاً على خطرات الريح، فذكرت تحت شراعه وصف شوقي "النيل نجاشي والفلك حمامة بيضاء بجناح واحد"، وسألت نفسي كيف يزهد شعراء مصر وهم غنية الأدب بوصف هذه المباهج والمغاني كما زهد شعراؤنا بالشام في وصف طبيعتها ومفاتنها؟ وما مصر سوى النيل الذي وهب لها البركة والحياة وكتب لها المجد والخلود، فلو أحصى ما قال الفرنسيون عن نهر السين وحده لجاء أكثر من ديوان، وما نظم القدامى والمحدثون من أمم الحضارة والثقافة في وصف بلادهم تضيق به الأسفار الضخام".

ويبدو أن جمال المنطقة قد حفزها على ملاحظة ظاهرة كانت موجودة في ذلك الزمن تتعلق بانبهار الكتاب والشعراء في المشرق العربي بالغرب، وانصرافهم عن معرفة جماليات بلدانهم حيث تقول: "ذلك دأبنا نحن الشرقيين، فننا في جيوبنا دفين، وشعورنا في جمال أرضنا وسمائنا مكبوت أو كمين. ذكرت هذا في السفينة الشراعية التي نقلتنا إلى جزيرة الملك بأسوان، التي اشتملت على حديقة واسعة فينانة، ذات أدواح باسقة عتيقة، وأشجار لفاء مثمرة حديثة الزرع أفريقية المنشأ، وقد التفت غصونها وتكاثفت أوراقها، وحشدت في الحديقة أفواف الزهر، ونسقت مغارسها يد صناع".

وتشير إلى أن طالبات الفنون المشاركات في الرحلة تناثرن في هذه الجزيرة الغناء، "تناثرن على حفافي النيل، وفوق مجاثم الصخور بأيديهن الألواح والتلاوين، وطفقن يستوحين الطبيعة المصرية الجالبة ويتنافسن في رسم صورها الرائعة مرضاة لمواهبهن المتفتحة واكتساباً لتشجيع رئيستهن الفنية النابغة السيدة زينب عبده".

وتلفت "قبة الهوا" على جبل قريب من أسوان نظر أديبتنا، حيث رأت مجموعة من النساء بالقرب منها: "لاحت لنا من على عدوة أسوان قبة الهواء تتناوح فيها الريح فوق جبل أسندت فيه رشيقات الأجسام ممن احتملن نقل الأقدام على الرمال حتى أشرفن على النيل وطوفن بمقابر الأمراء ثم صعدن في الروابي والشرفات".

وقبة الهواء هي قبة أقيمت على ضريح ولي مسلم يقال له "سيدي علي بن الهوا" في قمة جبل يقع على الضفة الغربية للنيل بالقرب من المدينة، وفيه أضرحة لنبلاء وكهنة من الدولة المصرية القديمة، ويوجد أيضاً بقايا دير مسيحي على اسم القديس جورج.

وتحدثنا الأديبة سكاكيني عن زيارتها لإحدى ضواحي أسوان النائية تعيش فيها قبائل بدوية حيث تقول: "زين لنا الإلمام بالقبائل التي اعتزلت في ضاحية من أسوان كأنها الصحراء، فرأينا فيها رقص بناتها وترنح شيخاتها، وإنها لزمر تسكن المدر وتعيش على الفطرة نائية عن الحضارة".

وتشير إلى وجود ضاحية ثانية "تقام فيها كل خميس سوق عامة كسوق الجمعة في صالحية دمشق، يبسط فيها للبيع كل أوعية ومتاع، ويتنافس الباعة من نسوة ورجال في عرض بضاعتهم المزجاة، ويزدحم المساومون حولها".

وكان اليوم الأخير من الرحلة مميزاً إذ توجهت مع رفيقاتها إلى خزان أسوان، وهو السد الذي وضع له حجر الأساس الخديوي إسماعيل، وتم تنفيذه ما بين العامين 1898 و1906. وتقول في وصفه: "كان يومنا الأخير في أعز ما عند أسوان وهو الخزان، فركبنا سفينة تجري بالبخار، حملتنا في مؤنس الضحى على متن النيل إلى مجثم الخزان، فإذا هو محتبس ماء جبار، رابض في قاع من جلمود الصخر، شيدته معجزة العلم الحديث بين ضفتين شاسعتين ومرتفعات راسخة، حصرت الماء الذي رأيناه منبثقاً من خلال الخزان، وكأنه أسنان مشط يرجل ضفائر عروس النيل، فكان الزبد يعلو ثم يهوي فيتفجر دقيق الرؤوس ضخم الأجسام، ثم تتناثر منه الأقدام برذاذ كأنه ضباب أو دخان".

وتشير إلى تولع بعض الفتية من أبناء أسوان بالفتيات حتى ألقى أحدهم نفسه "من ارتفاع عشرين متراً فهوى إلى الماء بجانبنا، وكأنه باشق حالك، ولما غاص في الماء ثم عام أخذ يتقلب وكأنه سمكة سوداء".

وتقول إنها عادت من أسوان، بمسيرة يوم، معها تذكارات من الرحلة عبارة عن "أوعية من القش موشاة بالألوان ومراوح منسوجة ذوات طرر، وقلائد من العاج سآخذها معي إلى الشام لأذكر بها أسوان كما ذكرتها من قبل إذ قرأت كتب العقاد".


نبذة

وداد سكاكيني رائدة من رائدات الأدب العربي، ومن الداعيات إلى حقوق المرأة، وهي مولودة في صيدا اللبنانية عام 1913، وتخرجت في كلية المقاصد الإسلامية في بيروت، واتجهت إلى التعليم، حيث أمضت فيه عشر سنوات. وكان لزواجها بالأكاديمي والدبلوماسي الدمشقي زكي المحاسني أثر كبير في حياتها، فقد أتاح لها هذا الزواج من رجل يقدر الأدب ويكتب الشعر، ويؤمن بحرية المرأة، أن تنمو موهبتها الأدبية، وتتفتح روايات، وقصص، ومقالات نقدية، وكتب سيرة. حتى نالت اعتراف كبار الكتاب العرب في النصف الأول من القرن العشرين، مثل طه حسين ومحمد مندور والشاعر بشارة الخوري، الذين أشادوا بموهبتها في الأدب والنقد.

وداد سكاكيني - القسم الثقافي
وداد سكاكيني (منتدى "معزوفات مخملية")

وتعتبر سكاكيني من الأديبات الرائدات غزيرات الإنتاج، إن لم تكن أغزرهن، فيندر أن تقرأ في مجلة أو دورية عربية خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من دون أن تصادفك مقاله لها، كما تركت لنا عدداً كبيراً من المؤلفات منها روايات "أروى بنت الخطوب" 1946، و"بين النيل والنخيل" 1947، و"الحب المحرم" 1947، ومجموعات قصصية مثل "الستار المرفوع" 1955، و"نفوس تتكلم" 1962، و"أقوى من السنين" 1978، بالإضافة إلى كتب في النقد والسيرة مثل "أمهات المؤمنين" 1945، و"نساء شهيرات من الشرق والغرب" 1960، و"قاسم أمين" 1971، و"عمر فاخوري" 1972، وغير ذلك.

 

المساهمون