"الندابة"... العيشُ على الموت

"الندابة"... العيشُ على الموت

03 يناير 2016
البكاء والندب كمهنة (Getty)
+ الخط -


يظنُّ المصريون أنَّ مهنة "الندابة"، ويطلق عليها أيضاً "النياحة" و"التعديد" و”اللطيم"، صناعة مصريّة أصيلة، بالرغم من وجودها في أماكن عديدة كالعراق والشام وغيرها، وهي مهنة لا تزال باقية، وإن كانت نادرة، في بعض الأرياف المصرية، ونجوع الصعيد الجوّاني، حيث يحتفل الناس بالجنائز. إذ تستأجر أسرة الميت "نائحة" محترفة، تقوم بطقوس جنائزية حارّة من بكاء وعويل ولطم للخدود وشق للجيوب، فتظل تولول وتصيح بأعلى صوت معدّدة مآثر الفقيد ومناقبه. 

رصد الأستاذ أحمد أمين تلك المهنة في مصر، وهو يصف "المُعدّدة" في كتابه المعنوان بـ "قاموس العادات والتعابير المصرية"، بقوله "إنّها امرأة تُدعى للغناء في المأتم، وهي تستفسر أولاً عن الميت ومن هو، وعلى أي حالٍ كان، وما فضائله ومزاياه، وتصوغ من كل ذلك كلاماً في "تعديدها" يثير كوامن النفوس، ولها لسانٌ فصيح وقدرة تامة على الإبكاء، وبعضهن يصحبن معهن الدف، فيثرْن بذلك دوافع اللطم على الوجوه".

كانت المعددة منهنَّ تتدرَّبُ على كيفيَّة البكاء الغزير والسريع المتواصل إضافة إلى حفظ الجمل التي كانت ترددها أثناء العمل؛ مثل: "يا جَمَلي، سايبنا لمين يا سَبْعي؟ مكنش يومك يا أخويا، يا حنيّن يا أخويا / يا أبويا/ يا ابني…". وكانت لهنَّ طرائق في التعديد؛ فيتشعَّبُ حديثهنَّ إلى نواحٍ كثيرة؛ مرَّة على الغرقى، ومرَّة على القتلى، ومرَّة على الموتى الذين قضوا نحبهم بطرائق مختلفة.

وهناك من الروايات الدينية، ما يشير إلى أن النائحة كانت إحدى الوظائف الرائجة في الجزيرة العربية قبل الإسلام. وبالرغم من تعدد فتاوى الفقهاء بتحريمه عبر التاريخ؛ فإنَّها ظلت وظيفةً مهمّة لم تبدأ بالانحسار إلا منذ عدة عقود.

في كتاب "قاموس الصناعات الشاميّة" لمحمد سعيد القاسمي، المولود سنة 1843م، يشير بأن "اللطامة" كانت تعد مهنة النساء المتهتكات، وأنها كانت رائجة جداً في الزمن السابق، أما في عصره فقد أصبح رواجها قليلًا، وذلك لانصباغ الزمن بغير الصبغة الماضية تمدناً وعادة وتقاليد. ومع ذلك فلا تزال طوائف منهن يُنْدَبنَ للندب فيندبن؛ وذلك عندما يموت أحدُ الأغنياء أو التجار الكبار، فيأتي أهله باللطّامات، ويوفوهن أجورهن سلفاً، وعلى قدر ما يعطوهن من الأجرة يقُمْن بنظيره من العمل: إن كان كثيراً فكثير، وإن كان قليلاً فقليل.

وفرقة النياحة في العادة تتألَّف من أربع إلى عشر نساء، يلبسْن الثياب السود، ويلطخن وجوههن وأيديهن بمسحوق الفحم، ويحللن شعورهن على أكتافهن، ويدرن بأطراف الدار. وهن كالرئيس، وأهل الميت حولهن كالتلاميذ، فيأخذون بالولاويل والصراخ والبكاء والنحيب والندب، ويعددن صفات الميت ومحاسنه، وما كان عليه في حال حياته، من بره وإكرامه وعطائه، وإحسانه للفقراء والأرامل والأيتام وغيرهم، ويلطمن على صدورهن وأرجلهن، ويصيحون بالولاويل، ويساعدهن على ذلك أهل الميت، إلى أن يُخرَج بالميت من الدار.

إقرأ أيضاً: أفلام الموبايل... "مرآة" غزة

المساهمون