المسحراتي: من بلال بن رباح حتى اليوم

المسحراتي: من بلال بن رباح حتى اليوم

20 يونيو 2015
تختلف أناشيد المسحراتية وأدواتهم من بلد إلى آخر
+ الخط -
قديماً كان الناس يخلدون للنوم في أول الليل، فيحتاجون إلى من يوقظهم قبيل الفجر لتناول السحور، ولم تكن هناك وسائل تنبيه، كالتي كثرت الآن، فكان المنادون من أهل اليمن والمغاربة يطوفون على البيوت يطرقونها بـ "النبابيت"، فيما كان المسحّرون من أهل الشام يطوفون على البيوت ويعزفون على العيدان والطنابير، وينشدون أناشيد خاصة برمضان. ويقال إن أول من أيقظ الناس على "الطبلة" هم أهل مصر، وكان عنبسة بن إسحق (سنة 228 هجرية)، أول "مسحراتي" في مصر، حيث كان يذهب ماشياً من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص، وينادي الناس بالسحور. أصبح عنبسة لاحقاً والياً على مصر، وكان حازماً عادلاً.

ذكريات الأدباء

يحكي الأستاذ أحمد أمين عن مسحراتي النصف الأول من القرن العشرين، قائلاً: "يغنّي لذلك أغانيَ مناسبة بنغمات خاصة، ويكون لأغانيه سحرٌ خاص، لأنه يغني ويطبل في وقت خشعت فيه الأصوات، وقلت فيه الحركات، ويفعل ذلك طوال شهر رمضان، ثم يمرّ على البيوت في العيد يتقاضى أجره".
بينما يحكي الأديب فاروق خورشيد عن طفولته وعلاقته بالمسحراتي، فيقول: "كانت أمي إذا غلبني النوم حريصة على أن توقظني حين تسمع صوته من أول الحارة بحيث تنهي عملية إيقاظي الشاقة، قبل أن يصل إلى باب منزلنا. فقد كانت تعرف أنني أحب أن أسمعه وهو يذكر اسمي بصوته المشروخ المنغم... وكانت هواية المسحراتي أن يعطي الألقاب لمن يحب، وأن يمنح المهن والأوصاف لمن يريد أثناء ذكره للأسماء في التسحير، فهذا المعلم فلان، وهذا الأسطى فلان، وهذا فلان أفندي".
ومن الموروث الشعبي؛ أنه دارت معركة حامية بين "مسحراتي" أصلي ومسحراتي "دخيل"، فاتهم أحدهما الآخر بأنه تعدى وقام بالتسحير و"التطبيل" في منطقة نفوذ الآخر، وأراد أحدهما إثبات حقه، وأسبقيته في تسحير الحي المتنازع عليه، فقال عن غريمه إنه: "يطبل في المطبل"؛ فأخذت مثلاً على من يبذل جهداً لا طائل من ورائه.

مسحراتي الشام

لا يختلف مسحراتي الشام عن مسحراتي مصر، ويطلقون عليه "مُسحّر"، وهي من مهن الفقراء، وقد وصفه القاسمي في "معجم صناعات الشام"؛ بأنه "من يوقظ الناس لتناول السحور في شهر رمضان، يدور على البيوت قبل الفجر بساعتين، وبيده طبلة يضرب عليها بجلدة، ويغني بأقوال مختلفة، فينبه أصحاب البيوت".
وكل محلة بدمشق لها مُسَحّر مخصوص بها، حين دخول وقت السحور فينبه أصحابها ويدور عند الغروب على أصحاب تلك الدور، فيعطونه من فضلات طعامهم، حتى إذا انتهى شهر رمضان وأقبل العيد فيدور عليهم ويطرق أبوابهم، وكل شخص يعطيه على قدره من الدراهم، مع إطعامه من حلاوة العيد.

الشاعر والفنان

هي مهنة فنية تعتمد على الغناء والإيقاع، وصاحبها: "مسحراتي .. منقراتي"؛ يلجأ لصوته مع نقرات الطبلة المنتظمة. ويبدو أن إيقاع الطبلة الثابت موروث ذكره من كتبوا عن "المسحراتي"، وحفظته تسجيلات صوتية قديمة نسبياً لأغنيات صنعت خصيصاً مثل أغنية "المسحراتي" لمحمد عبد المطلب، ومن كلماتها:
يا مؤمنين بالله
يا موحدين بالله
قوموا كفاية نوم
هي الحياة كام يوم؟
وبالصلاة والصوم
يرضى علينا الله
مسحراتي القرن العشرين الأشهر هو الشيخ سيد مكاوي (1927-1997) مطرباً، ومن خلفه فؤاد حداد (1928- 1985) شاعراً؛ ولد حداد لأب لبناني بروتستانتي، وأم سورية كاثوليكية، واختار الإسلام وهو في معتقلات النظام المصري سنة 1945. كان ديوانه "المسحراتي" أحد أهم دواوين العامّية المصرية، وبالتعاون مع الفنان مكاوي قدما لوناً جديداً من التسحير الذي يحمل هموم العروبة والوطنية، ففي قصائده انتصر "حداد" للإنسانية التي جسدها صوت الشيخ مكاوي ومظهره ونقرته التاريخية! وانتصر للانطلاق والحرية فـ "الرجل تدب مطرح ما تحب".

إسماعيل والأطفال

لا يزال المسحراتي بطبلته المميزة رمزاً رمضانياً محبباً للأطفال والكبار على السواء، خاصة في الأرياف المصرية والمناطق الشعبية، ولكنّ الدور الذي يقوم به المسحراتي اليوم أصبح احتفالياً أكثر منه عملية تسحير حقيقية، فالجميع متيقظ بانتظاره.
"إسماعيل عبد المجيد" شاب من محافظة الشرقية يعمل مسحراتي في ليالي رمضان منذ عدة سنوات، مهنته الأساسية "سائق تروسكل"، تبدأ رحلته وتنتهي في حي مساحته حوالي كيلومترين مربعين، يصحبه الأطفال يغنون معه ويصفقون. يحصل من أهالي الأطفال على مبالغ زهيدة، مرة في أول الشهر ومرة في وسطه. يمر بجميع الشوارع والحواري، يغني قليلاً مع بعض الفواصل التي ينادي فيها على الأطفال وبعض المواطنين بأسمائهم.
في أحيان كثيرة يختبئ الأطفال خلف أبواب بيوتهم، ثم يخرجون إليه سريعاً وهو بعد أن ينادي على أسمائهم. وقد تحدث معاتبات من الأهالي؛ لأنه نسي أن يذكر اسم صغارهم! والأطفال يدورون معه ويساعدونه في التسحير والغناء، ثم يعيدهم في نهاية المطاف كلّ ليلة إلى بيوتهم سالمين مبتهجين!
توصية بعض الجماهير تدفع إسماعيل المسحراتي إلى أن يقتبس من سيد مكاوي بعض أغانيه حيث يوقفونه من شرفاتهم، ويعطونه بعض المال ليقدم وصلات غنائية خاصة، بصوته (الذي يظن أنه عذب)، فيغني لدقائق، ثم يختم قائلاً:
وانا صنعتي مســحـراتي فى البلد جوال
حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال
وكل شبر وحته من بلدي
حته من كبدي
حته من موال.
يظل إسماعيل حريصاً على احترام مناطق نفوذ زملائه المسحراتية، فلا يتعدى حدوده، ولا "يطبل في المطبل"! وهو يستمتع بعمله مع الناس إلى نهاية رمضان، ثم يحصل على حلوانه المادي الأكبر في عيد الفطر المبارك.

المساهمون