معالم الجسد السايبري: الرعشة أمام الكاميرا (4 - 5)

06 يوليو 2017
+ الخط -

التقنية الثانية المستخدمة في التواصل الجنسي الذي تقدمه الشاشات، معروف باسم سكايبنغ-skyping، نسبة لبرنامج التواصل بالصوت والصورة الآني، السكايب –skype .  ليس من الضرورة استخدام  البرنامج ذاته؛ إذ يصلح أيّ برنامج يوفر اتصال آني بالصوت والصورة لبدء الممارسة، وذلك لمحاكاة الفعل الجنسي أو تفعيل الاستمناء عبر تلقي الآخر والذات من خلال الشاشة.

يختلف هذا النوع من التواصل عن السابق، كون اللحم الفيزيائي فاعل وينتقل إلى الشاشة، ولا يتم الاكتفاء بوضعيات الاستمناء كما الكتاب؛، فالجسد الفيزيائي تتطابق وضعياته مع الجسد السايبري، بل ومطالب بالوصول للرعشة وإثباتها على الشاشة، وكأن الانتقال من الواقعي إلى السايبري عبر الشاشة أشبه بالموت ثم البعث إيقونيًا، فالعري الواقعي هو المرحلة الانتقالية نحو الحضور الرمزيّ، وفيه نكتشف هشاشة الآخر عبر الشاشة وخضوعه لأنظمتها؛ إذ إن العريّ الذي يمتلكه الجسد السايبري خال من الدفاعات الأخلاقيّة، هو عارٍ أمام نفسه، وأمام أعين الآخر العاري مثله. الشاشات أشبه بنوافذ للموت والمتعة في ذات الوقت. العريّ يعادل الانتقال للموت بوصفه دون أي قيود بعد حدوثه.
 

الأداء أمام الشاشة
يختلف الأداء أمام الشاشة عن ذلك الواقعي كونها تتطلب من اللحم البشري أن يكون حاضرًا ضمن وضعية استعراضيّة؛ فهو يختلف عن الفيزيائي كونه لا يهدف لتفعيل مواطن اللّذة في جسد الآخر، بل المتخيلات الذاتية لدى كل فرد على الآخر، ومحاولة مطابقتها سواء كانت نابعة من خبرة شخصيّة أو من مرجعيات أخرى تقدمها الشاشة. هذه الوضعيات محكومة بعدسة الكاميرا التي يجب أن تلتقط الأجزاء المطلوبة المرئية للطرفين حتى ضمن الفعل الحميمي الذي يجب أن يكون واضحًا للطرفين، بحيث يكون الجسد خاضعًا لمعادلة يَرى ويُرى، فالجسد السايبري فاعل ومفعول به ذاتيًا، وهذا ما ينعكس على الوضعيات التي تسعى لاستعراض اللذة، لا اللذة ذاتها.

تحضر عناصر الأداء بمعناه الثقافي والفني في هذا النوع من التواصل، فالجسد هو الأساس، لكنه يخضع، كما وضّحنا سابقًا، للانشطار. هناك اللحم الفيزيائي الذي تتم أغلمته واستعراضه، وهناك الجسد السايبري المستخدم لنقل اللذة بوصف الشاشة وعاء له. الجسدان متطابقان شكليًا، لكنهما مختلفان على صعيد "استحضار الرعشة"، كما أن أفعال الأغملة ليست متماثلة في ما يخص الجسدين. فما هو "مثير" للسيايبري قد لا يكون مثيرًا للواقعي على صعيد الوضعيات، وكأننا أمام أداء مزدوج، للوصول إلى الرعشة في الجسد الواقعي ثم "موضعتها" على الشاشة بصورة "مثيرة" للآخر.

طبيعة هذا الأداء السايبري تخلخل علاقات القوة والهيمنة المرتبطة بالفعل الجنسي، سواء على الصعيد الشخصي أو تلك التي تفرضها الأدوار الاجتماعية، فتكوين الجسد عبر بيكسلات يختلف عن التكوينات والوضعيات المفترضة من قبل التقليد الجنساني، فبناء اللذة غير قائم على اللمس والتاريخ الفيزيائي للذة المرتبط بالجسد، بل على أساس الاستعراض والتحريض الذاتي، والتكوينات السايبريّة بوصفها وسائط للذة تستبدل تلك الفيزيائيّة.


نطاف في الهواء
الأداء أمام الشاشة يعيد تعريف طاقة الليبدو الجنسية وتحويلها إلى صورة استعراضية، فاللذة في هذا السياق تسعى دوماً أن تكون مرئية، مبالغة أحيانًا لتلقطها عدسة الكاميرا وتحولها إلى تكوينات بيكسلية مرئيّة للآخر، بحيث تساهم هذه الطاقة الليبيديّة الاستعراضية بتحويل الجسد السايبري بأكمله إلى عضو لذة، ِأشبه بـ "بظر" للمتعة فقط، وكأن الجسد السايبري الاستعراضي هو صيغة مضخمة للعضو الأنثوي الذي يحتكر اللذة ولا يسعى للتكاثر.

تمثيلات الجسد الواقعي على الشاشة وتحويله إلى صيغة سايبريّة بظريّة ترتبط بالخبرة التي يمتلكها المستخدم مع العالم السايبري، هذه الخبرة تأتي من العلاقة مع الشاشة وتقنيات التلقي المرتبطة بالإباحية التي تبثها الشاشات من الإعلانات حتى الأفلام الإباحية، والتي تغرس الوضعيات الجنسية وتقنيات تحويل الفيزيائي إلى سايبري، بوصف هذه الوضعيات تولّد اللذة.

هنا، بالإمكان الاستعارة من المسرحي الفرنسي جاك لوكوك، مفهوم "الأكروبات الدرامي" بوصفه "يحرر (الممثل) من قوة الجاذبيّة" وتحويره نحو الأكروبات المؤغلم، والذي يسعى عبره الجسد الفيزيائي للتحول إلى صيغة سايبرية مؤغلمة عبر وضعيات وحركات تستجر اللّذة، فالأكروبات هنا لا يؤدي على الخشبة، بل على الشاشة، وهذه الوضعيات لا تعتمد فقط على المهارة الجسدية بل على التموضع الليبدي أمام الكاميرا في سبيل البظرنة –clitorisation-.


إعادة تكوين الجسد الاجتماعي
بما أن التواصل الجنسي عبر الكاميرا يحوي في داخله مرجعيات اللذة المرتبطة بالدور الاجتماعي للجسد، العريّ ما زال عنصرًا فاعلًا في ما يتعلق بالأجزاء التي تكشف أو تخبأ إذ يستدعي الفانتازمات الفيتشيّة وتكوينات الأعضاء، بحيث يحاكي بصورة مائعة نوعًا ما  الأعراف الاجتماعية لكسرها ويقارب ما هو مجنسن اجتماعيًا، إذ لا يوجد قطيعة تامة مع التمثيل الاجتماعي الجسدي للّذة المرتبطة باللحم الفيزيائي، وهذا التمثيل يرتبط بالتجربة التي تختزنها الذاكرة الإباحية للجسد الفيزيائي، سواء عبر تلقي الآخر أو تمثيل الذات على الشاشة و الأداء أمامها، إذ لا يوجد نفي كامل لوضعيات الجنسنة الاستهلاكيّة كونها أساس الاستعراض، وهي التي تخلق تقنيات تلقي اللذة واستثارتها وتدفع  الجسد الفيزيائي لمحاكاتها آخذًا وضعياتها على الشاشة.

الاختلاف بين هذه الوضعيات الخاصة "private"  وتلك الاستهلاكية، أن الأولى لا تخضع للمونتاج، هي لا سياسيّة، أي أنها لا تحيل إلى بنية تخدم الاقتصاد السلعي للجسد بصورة مباشرة، بل هي انفلاتات أحيانًا، هي شطحات قد لا تحيل إلى أنظمة ربحيّة، هي تُسائل الوظيفة التكاثرية من جهة والاستهلاكية من جهة أخرى، كونها تخدم الهوى الشخصي وتستند إلى بعض  تقنيات اللعب التي تخالف البنى القائمة في سبيل اللذة، خصوصًا أن الجسد السايبري يتيح وضعيات لا تنتمي للحضور الفيزيائي، ويتيح "لذّة"  لا تحققها الممارسة الواقعيّة، إلى جانب كسر احتكار الشاشة الاستهلاكيّة، كون الجسدين فاعلين، see and be seen، كلاهما يساهم في تشكيل الآخر، كأننا أمام مرآة مزدوجة، كلا الشخصين يسهمان بالأداء المؤغلم.

المساهمون