النيل وطَن*

17 يناير 2017
يحدّثون النيل ويغنون له كأنه كائن حي (Getty)
+ الخط -
"يا نيل يا كبير.. خلّي شَعر بنتي طويل، يا نيل يا طيّب .. طيِّب جرحي" بهذهِ العبارة ألقت "عِيدة" أم "هيام" في فيلم "فتاة المصنع" لمحمد خان، بشَعر ابنتها في النيل، متمنية أن تتجاوز ابنتها قص شعرها وعلاقة الحُب الحزينة في الفيلم، وأن تعود للتحكُّم في حياتها مجدداً، بالطبع كان لهذه العبارة تأثير البلسم بعد عدّة تطوّرات حزينة في الفيلم. خرجتُ من السينما أفكّر في دلالة هذه اللقطة لتظهر هكذا في قلب أحدث أفلام خان، وتأثيرها، كأنّها من زمن آخر.

نهر النيل بالطبع موجود على ويكيبيديا، يمكنك أن تقرأ كثيراً عن أهميّته الاقتصادية والسياسية للحضارات التي قامت على ضفتيه، ولكن شيئاً في حماس المصريين للنهر يبدو مميزاً، منذ قال هيرودوت إن مصر هبة النيل، واصفاً الحال، وحتّى يومنا هذا، العلاقة الأسطورية لا تنفصم، ولا تختفي حتّى تعود.

تقول وينفريد بلاكمان في كتابها "الناس في صعيد مصر.. العادات والتقاليد" إنه من التقاليد المتبّعة عند الولادة، أن تحمل الخلاص الخاص بالمولود "المشيمة" إحدى قريبات الأم من الدرجة الأولى، وترمي به في النيل، وهي تبتسم ليعيش المولود بشوشاً وسعيداً وطويل العمر، كما أن شعر المولود في الحلاقة الأولى، أو شعر الحلاقة عموماً للنساء والرجال، يجب أن ترميه الأم أو صاحب الشعر في النيل، راجين بذلك شعراً أطوَل وأغزر وأجمل، متخوّفين من رميه في الطرقات حتى لا يمشي فوقه الناس فيصاب بالقرع، أو يأخذه خصم فيعمل عليه عملاً من أعمال السحر المؤذي.


في الآونة الأخيرة، اتخذ جزء من العلاقة بين الناس والنهر منحى صعباً، ولكن تحقيقات الصحافيين تولّت الأمر، فظهرت تحقيقات تشير إلى الاعتداءات التي تحدث على ضفافه، ومخلفات المصانع والقمامة التي تُلقى فيه، ولعل هذا يبدو جزءاً من السياق العام الذي يشعر فيه المصريون بأن البلد ليست بلدهم، ويطبّقون المثل السائر "إن خرب بيت أبوك خُدلك منّه قالب"، غضب ربّما ونقمة، ظهر هذا قليلاً في أغنية غير مشهورة لعلي الحجار عن النيل وجرحه الذي لا يفعل شيئاً حياله.

لكن ما زالت التمشيَة على الضِفاف المُتاحة، هي الخروجة المفضّلة للكثيرين، وهذا التراث من أكل الذُرة وحمص الشام في الشتاء، والترمس واللب في الصيف، يكاد يكون هوَ الثابت الوحيد في حياتنا، يُضاف إليه بعض الزيادات في الصعيد وفي بحري، كالصيد وقصب السكر، وتعلُّم العوم في الترع، لكن نيل أسوان الأزرق، دائماً ما يغري بتجربة العوم، وشُرب المياه مباشرة بجوار السد العالي.

وعلى حديث الذُرة، فإن الأغاني لم تترك شيئاً يتعلّق بالنيل إلا وأخذته وطبّعته ليكون جزءاً من الموروث الشعبي، حورية حسن والدُرة النيلي، بصوتها المصري الخالص، ويا دُرة يا رباية النيل يا أحلى من اللوز، وتجربة محمد الموجي الأولى مع الإذاعة وصوت فاطمة علي الشجي، يا موج النيل روح سلّم على الأحباب وفكّرهم.

يحدّثون النيل ويغنون له كأنه كائن حي، أليس كذلك؟ استقر في المعتقد الشعبي أن النيل كائن حي، وله مواعيد نوم واستيقاظ، بجانب مواعيد الفيضان بالطبع، في كتابه "فلكلور النيل" يقول الباحث هشام عبد العزيز، أنه استقر في وجدان الناس، أن النيل ينام دقيقة واحدة في اليوم، غير معروفة وغير محددّة، إذا صادفك الحظ وشربت من مائه فيها، فمهما كنت ضعيفاً وعليلاً فإنك تتحوّل إلى شمشون الجبّار، يسمّونه "عَرق الصِبا"، ويسردون الحكايات عن" عبد الواحد صول" باعتباره شخصية حقيقية كانت تعيش في قرية "صول"، كان يعاني من الصفراء ويبدو معتلاً أغلب الوقت وتعينه أخته على الحياة دائماً، شرب من النيل وهوَ نائم، فشال الزلعة بيد واحدة، وكان يدخل الخناقة فيمسك بالرجل ليرميه على الضفة الثانية من النيل بحركة يد واحدة، ويمسك بالزلط فيحوّله إلى تراب وهكذا، لا يمكن أن يفلت تفسير أمر ما مُستغلق على المصريين حتّى ولو كان بعض قوّة الجسد غير العادية إلا بمروره على نهر النيل.

لكن شيئاً في حياتي أيضاً لا يمكن تفسيره إلا بالمرور على نفس النهر، إن اسمه دائماً ما يلفت انتباهي ويقودني إلى اكتشافات مُبهجة وغير عادية، ولم يخب الأمر إلا نادراً، فمثلاً، يملكون قدراً من الجرأة والجمال في السودان لدرجة أن تُسمّى مُطربة من أرق مطرباتهن وأجملهن: حنان النيل.

على سيرة الحنان، يقول فؤاد حداد في المسحّراتي: "من القوافي لمّا خدت الأمان، قلّدت بحر النيل بلا استئذان، بين الشواطئ أمشي في الأحضان، وأضاحك الفجرية وأسقي الغيطان، واهدي الكباري نظرة الولهان، وأكسر خيالي في كل عود انسان، وفي نيّتي أكبر من الفيضان، الضي بعد الري من أسوان، عِبرة حياتي وصنعة الفنان، معنى المروءة وزرع الاطمئنان، في كل مطرح لما ألاقي حنان، وألاقي قعدة تجمع الخلان، وألاقي نسمة من هوى الأوطان".. وهكذا يسير، متقمصَّا روح النهر، منطلقاً في دهاليز الإلهام وفياضاً في المعنى والإبداع، من بين كثير من تشبيهات فؤاد حدّاد لطلاوة شِعره وتفجّره، يظل تشبيهه بنهر النيل أشمَل وأجمَل.

في الأوقات الصعبة، أو عندما أحتاج للتفكير بعمق، أذهب في تمشية لأطول مسافة ممكنة على الكورنيش، تهترِيء أحذيتي من دوس الكباري والجسور، إلّا أن أفكاري وقراراتي تتبلوَر وتُبدع، قد يتبادر إلى الأذهان أن أي مسطّح مائي يمكن أن يفعل ذلك، بما له من قدرة على إراحة بصر الانسان وبصيرته، لكن الحقيقة أن مصر تطل على البحرين الأحمر والمتوسط، ولم يظهرا في حياتي بما هوَ أبعد من الاستجمام، ولم يظهرا لسائر المصريين كذلك، كم أغنية عن نهر النيل أو وردت فيها كلمة النيل، أمام أي من البحرين؟ لا وجه أصلاً للمقارنة.

وعلى ذكر الأوقات الصعبة، يُورد عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه، أن حادثة غريبة وقعت سنة 1147 هجرية، حيث سرت شائعة بين الناس يوم الأربعاء أن القيامة ستقوم بعد يومين، أي يوم الجمعة، وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة، حتى في القرى والأرياف، يذكُر الجبرتي أن أهالي الجيزة نساء ورجالاً صاروا يغتسلون في النهر، مُعتقدين أنه يمحو الذنوب ويُطهّر الآثام!

لقد كبرنا ونحن نسمع د.صلاح الراوي يحكي أنه بعد هزيمة يونيو 1967، أو في الجنازات المهيبة كموت جمال عبد الناصر، خرج الناس إلى الشوارع، وتوجّهت الكُتل إلى النيل، كأنه رمز الحماية وإعادة الحياة، فلم يعد غريباً علينا في وقت غلاء ومعيشة ضنك كالوقت الحالي أن نجد الناس متحلّقين في المساحات الباقية من نهر النيل، معتبرين أنه مساحة الحياة الباقية من العاصمة، وربّما لهذا كانت أحد أكثر ملاحم الثورة المصرية في 2011 إلهاماً، هي معركة كوبري قصر النيل، التحرير له طُرق كثيرة بالطبع، لكن هذا الطريق بقي صعباً ومميزاً ومحفوفاً بمخاطر الغرق على الجانبين، ولولا صمود الثوّار وتضحية الشهداء، لتمّت السيطرة على حركة الجموع من المداخل الأخرى.

كُنت أدندن "إمتى الزمان يسمح يا جَميل، وأقعد معاك على شط النيل" ريثما تنتهي صديقتي من قص شعرها احتفالاً بالعيد، وأفكّر أنني أريد أن أرى النيل اليوم، حين نادت عليّ سائلة عن رأيي في القصّة الجديدة، أطريت عليها، ووجدتني بلا تفكير أنحني على قصاصات شعرها على الأرض بمنديل، أخذت خصلة، وطلبت منها أن ترميها في النيل، ليُحافظ على نمو شَعرها، ولأحافِظ أنا على صداقتنا بعُمق النيل.


*فؤاد حدّاد

المساهمون