الإنتلجنسيا الفرنسية و"احتقار" كرة القدم

09 ديسمبر 2016
(مشجعو فريق الديكة، الصورة: getty)
+ الخط -

للأنثروبولوجي أن يقف قليلُا ويتأمّل هذه الظاهرة الفرنسيّة، "احتقار كرة القدم". لأكون أكثر وضوحًا؛ إنها النخبة المثقفة، الإنتلجنسيا اليساريّة الرقيقة، هي التي تحتقر كرّة القدم عن قناعة تامّة، وها هي رؤيتهم للأمر: "كرة القدم هي تسليّة تجعل الناس أغبياء وتُلهيهم عن معاركهم الحقيقية".

أصدقائي الأعزاء المثقّفين، أظنّ أنه الوقت كي أخبركم شيئًا: الشعب هو على ما عليه الآن، يُحب ما يحب، بكل بساطة، هو لا يشارككم أفكاركم وأذواقكم، وبما أنكم لا تعترفون أننا لا نتفق معكم، فتعتبرون أن كل تعارض معكم هو "اغتراب". توقّفوا عن احتقار الشعب، فبساطته هو أجمل وأسمى من احتقاركم له ومن أفكاركم المغلوطة.

نعم، الفِكر مكروه عندما يظنّ نفسه أعلى من البساطة، فالسعادة دائمًا ما تكون عبثيّة الطابع وغير عقلانيّة، ومن المفترض أن نَسعَد عندما نرى الناس سعيدة وتتجمع حول لعبة بهذه البراءة.

يقولون إن المشجّعين سوقيون، وماذا في ذلك؟ على الأقل هم حقيقيون، وصادقون، وجادون. فماذا تريدون إذن؟ أن نخفي ما لا تريدون رؤيته؟ المجتمع مكوّن من أناس مختلفين، وهذا هو سرّ جماله، ولكن أنتم أيها المثقّفون تريدون أن يصير العالم كله على شاكلتكم؟ أيّ أفكار سخيفة وعبثيّة؟ إن احتقاركم للشعب يُفصح عن جهلكم الفاضح بالحياة.

يقولون إن المشجّعين يتعاركون، وماذا في ذلك؟ الشجار بين المتعصّبين أمرٌ جميل، دون مزاح؛ بلا شك هذا أفضل ما يستطيعون القيام به، فهم يحبّون ذلك، ويكرّسون وقتهم لذلك: لنتركهم يمرحون.

يقولون إن كرة القدم تقوم على مشاعر قتاليّة وعلى روح القطيع والقبيلة؛ هذا صحيح، مثل الدين، الذي يقوم هو أيضًا على تَجميع الناس لأسباب أكثر اعتباطية من تلك التي تدفعهم لتشجيع هذا الفريق أو ذاك، ولكن مثل هذا النزوع، الذي لا أحبّه بشكل خاص، متأصّل في الطبيعة الإنسانية، وهو يتمّ التعبير عنه هنا بشكل بريء، فماذا تريدون؟ أن يتم إخفاؤه؟

هذا الاحتقار لكرة القدم غير مفهوم بالمرّة، فهو يخفي شيئًا؛ أناس يلهون حول كرة القدم، ماذا يضير ذلك الآخرين؟ ماذا فعلوا لكم كي تحتقروهم إلى هذا الحد؟ أين الجرح الذي تسببوا فيه لكم بالتحديد؟

يجب أن أقرّ بأن الجمهور يأسرني عندما أشاهد مباراة كرة قدم عن طريق المصادفة، وهذا أمر طبيعي، فالجمهور يولّد تقريبًا آليات اندماج وتماهٍ؛ فنحن نتعاطف مع هذا الفريق أو ذاك، ثم نتمنى له الفوز، وانطلاقًا من تلك اللحظة نهتزُّ لكل ما يحدث في الملعب، وهذا هو ما نشعر به أيضًا عند قراءة رواية أو مشاهدة فيلم "التعاطف مع الشخصيات"، وحتى إذا لم نشجّع فريقًا، فالفضول يدفعنا لمعرفة من الفائز.

خلال بطولات كرة القدم، يتوافد الناس على الشوارع، وتكون العلاقات بينهم أسهل، سيمدحُ هؤلاء المثقفونَ اليساريونَ أي حدثٍ آخر له هذه النتائج نفسها، حيث سيرون فيه إعادة ولادة "الرابط الاجتماعي" وكل هذا الكلام الفارغ الذي يرددونه. كيف يتمّ إذن تفسير هذا الاحتقار؟: إنها رغبتهم في أن يشعروا بتفوّقهم.

هؤلاء المثقفون هم الاغترابيون، وفكرتهم عن الاغتراب خاطئة، فالمشجعون صادقون ومتسقون مع أنفسهم، وهم يصوّتون لهذا الحزب أو ذاك وانتهى الأمر، هم بسطاء ويفرحون لمشاهدة مباراة جيّدة، المثقفون لم يكتفوا بحزنهم وانعدام قدرتهم على الفرح، فقرّروا احتقار غيرهم، أرى في هذه الظاهرة متلازمة: "التحذلق والاحتقار".

والعمل الآن؟ لا شيء، الشعب لا يزال يحب كرة القدم، والنخبة تواصل احتقار الشعب وتظن نفسها أعلى منه. يقول ماركس إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة كمأساة والأخرى كمهزلة. نحن نعيش في عصر المهزلة، فاليسار يُصبح تمامًا عكس ما يجب أن يكون عليه، يجب أن يكون هناك المزيد من التسامح والبساطة، لأن التفاهات منتشرة كثيرًا. أحلم بيسار آخر، أحلم بالتركيز على معارك أساسية وواضحة: محاربة الكذب والنفاق، القضاء على البطالة، وتحقيق عدالة اقتصادية.

فلنجعل السلام يعمّ!

(النص الأصلي لـ جوليان ميرابول)

المساهمون