التنمية الاقتصادية المغاربية: التحالف ديموغرافيًا

06 نوفمبر 2016
(أفراد أسرة جزائرية في الثمانينيات، تصوير: باتريك روبرت)
+ الخط -
تشير دراسات حديثة إلى أن الكثير من الدول الأوروبية، أوروبا الغربية بالخصوص، تواجه مشكل تناقص أعداد السكان، وإن كانت النسب لا تزال بسيطة جدًا في الوقت الحالي وليس لها تأثير فعلي ملموس على الأعداد الإجمالية، فإن التأثير الأول الذي بدأ يتجلّى هو ارتفاع أعداد كبار السن مقارنة بأعداد الشباب القادرين على العمل.

بترك الاعتبارات الإنسانية جانبًا، يُمثّل كبار السن من جهة فرصة لتشغيل أعداد من الشباب في ما يعرف بـ"الخدمة الشخصية"، أي أعوان المرافقة اليومية في مختلف حركات الحياة من أكل وتنزّه واستحمام وغيرها، ومن جهة أخرى يمثّلون عبئًا على كاهل الاقتصاد بسبب الأموال التي تُصرف عليهم من صناديق التأمينات والتقاعد من دون أن يكونوا فئة منتجة، ولن تستطيع هذه الاقتصادات احتمال تزايد أعدادهم على المدى المتوسط.

ينبغي لفت النظر إلى أن فرنسا لا تزال تمثل إحدى الاستثناءات كونها لا تعاني من هذا المشكل، لتواجد جاليات من مواطنين من أصول مغاربية وأفريقية. وتشكّل الدول المغاربية كل واحدة منها على حدة، منافسًا للدول التي تعيش بها جالياتها.

ومع ارتفاع المستوى المعيشي بها، رغم المشاكل الهائلة التي لا تزال تحتاج لحلّها من الأميّة والتطرّف ومفاهيم مجتمعية متعدّدة، يتواصل تزايد أعداد السكان، ولا سيّما الفئات المنتجة، وهذا سيؤدي (النمو الديمغرافي) لا محالة إلى تسريع النمو الاقتصادي الذي تعرفه هذه الدول.


طفرة ديمغرافية
تعرف المجتمعات المغاربية الثلاثة في تونس والجزائر والمغرب قدرات شبابية هائلة، تمثل فئة أقل من 25 سنة في الجزائر نسبة 45%، فيما تمثل فئة أقل من 25 سنة في المغرب نسبة 46% وفي تونس حوالي 40%. وهذا يعني أنه إلى غاية 50 سنة مستقبلًا ليس هناك ما تخشاه هذه البلدان في جانب النمو السكاني، ويمثّل الشباب طاقة ابتكار هائلة، ولذا فإن دول شمال البحر المتوسّط تحتاج وستحتاج كثيرًا لهذه الطاقات التي يمكن أن تفيد أولًا وقبل أيّ شيء بلدانها.

يبقى الجانب الوحيد الذي ربما يمكن الخشية منه، هو التركّز السكاني غير المتكافئ، أغلبه في منطقة الساحل بتونس وفراغ سكاني في أقصى الجنوب وتركّز سكاني في أقصى الشمال بالجزائر أيضًا في مساحة لا تتجاوز خمسة في المائة من المساحة الإجمالية.

تبقى وضعية المغرب أفضل نسبيًا بسبب توزّع المدن الكبيرة بين الشمال والغرب، والحلول المقترحة لهذا المشكل، إما بتخطيط السلطات المركزية عن طريق تأسيس حواضر في المناطق الداخلية، على غرار ما قامت به البرازيل لدى تأسيس برازيليا العاصمة الحالية من أجل فك الخناق عن ريو دي جانيرو، أو بشكل تلقائي عندما يجد السكان أن العيش في الشريط الساحلي سيصبح أصعب فأصعب مع ارتفاع أسعار السكن وغيرها من ضروريات الحياة، بسبب الكثافة السكانية العالية، ونأمل أن تبنى التحوّلات على تخطيطات لا أن تبقى بلداننا المغاربية عرضة لقرارات غير مدروسة.

منذ فجر التاريخ، شكّلت الطفرة الديمغرافية إحدى عوامل نمو الحضارات التي تضطر حينما لا تكفيها الموارد في أقاليمها إلى الطفوح على أقاليم مجاورة، مثلما حدث مع جنكيزخان في بلاد المغول، وإمبراطورية روما والدول الأوروبية خلال نهضتها.

يعرف العالم الأوروبي المعاصر نمط حياة تكثر في وسائل الترفيه والراحة، ولكن مع كل ما تتضمّنه من جوانب إيجابية فإنها أدّت إلى تراجع قضيّة الأسرة إلى مرتبة دنيا، علاوة على انتشار روح الفردانية وكذا المثلية الجنسية التي لا تسمح باعتبارها حرّية فردية بالحصول على الأبناء بشكل طبيعي.


صناعة التنمية
بعد إبراز هذه العوامل التي تبعث على التفاؤل، يمكننا أن نطرح التساؤل: هل علينا أن نبتهج بهذا؟ يبقى الأمر نسبيًا، ولكن بالأحرى علينا أن نفكّر مليًا في الأمر. مرة أخرى في الجزائر وفي المغرب الكبير سنتعرّض للتاريخ ولن نكون نحن من يصنعه أو يستبق الأمور، حتى عندما يتعلّق الأمر بتنميتنا أو انتصاراتنا، لقد كان الأمر كذلك منذ عهد ابن خلدون، بل وربّما منذ هزيمة المسلمين في بواتييه.

تعرف بلدان المغرب الكبير خلافات بينها حول قضايا جوهرية، ولكن المصالح لا تنتظر وهي محكومة بالتحالف البراغماتي في الجانب الاقتصادي، وينبغي أن تكون المغرب وتونس أوّل من تستفيد من البترول والغاز الجزائري، كما أن تونس والجزائر يمكنهما أن تستفيدا من التجربة الزراعية الناجحة في المغرب الأقصى التي تصدر الكثير من منتجاتها إلى أوروبا.

باعتماد هذه البلدان لمبدأ اقتصادي قديم قدم التاريخ : المبادلات المربحة، وفقًا لنظرية الأفضلية النسبية لريكاردو، يمكن لكل دولة (أو نواحي بهذه الدول) أن تتخصّص في نشاط اقتصادي تتميّز فيه وتنتج بأقل التكاليف، على أن تصدّر لبقية مناطق ودول المغرب الكبير منتجاتها أو خدماتها بأسعار تفضيلية (دنيا)، مقابل الحصول على خدمات/منتجات المناطق الأخرى بأسعار تفضيلية عن طريق اتّفاقيات ثنائية.


الاقتصاد والسياسة
في هذا الصدد، أعود لما كررته دومًا بالقول إن الجزائر غير مستعدّة للانخراط في منظمة التجارة العالمية، بل إن علينا ألا نسعى لذلك مطلقًا في الوقت الحالي قبل أن تكون صناعتنا جاهزة للمنافسة لأن قوانين هذه المنظمة ستقيّدنا أكثر مما هو عليه الحال الآن فيما يتعلّق بالصفقات والأسعار التفضيلية وتدعيم الدولة لبعض أسعار المواد الأساسية.

لا يعني التحالف الاقتصادي الوحدة؛ وإن كانت الوحدة أمرًا محبذًا، فإن الواقع يبرز وجود تباينات سياسية حقيقية لا يمكننا إغفالها، ولذا ينبغي التركيز على تحالف اقتصادي إستراتيجي مفيد للجميع في النهاية.

كنموذج من التاريخ المعاصر، يمكن أن نذكّر بأن ألمانيا الحرب العالمية الثانية التي أرعبت الجميع قد نالت مساعدة كبيرة من الولايات المتحدة الأميركية، التي سعت للحفاظ عليها وتقويتها رغم الخشية من عودة الروح القومية النازية في ألمانيا، وذلك من أجل مواجهة الشيوعية من جهة، وكذا من أجل التنمية الاقتصادية من جهة أخرى.

كما أن أندونيسيا وماليزيا كدولتين من منظمة آسيان، لطالما تواجهتا سياسيًا، ولكن خلافاتهما لم تمنعهما من التعاون الاقتصادي. ومعروف أن ماليزيا "الدولة المتقدمة"، تحتاج للعمالة الأندونيسية ولذلك عملت على تأهيل هذه العمالة كما أن التطوّر الاقتصادي في أندونيسيا وارتفاع مستوى المعيشة بها يوفّر سوقًا من 150 مليون ساكن لشركاتها. في المقابل، تمثّل ماليزيا سوق عمل بالنسبة للأندونيسيين وفضاءً لتأهيل عمالتها من أجل تطوير صناعة محليّة وهذا ما يحدث في الوقت الراهن.


50 عامًا من الفشل
ينبغي ألا نغفل أن النمو في الاقتصادي في أيّ بلاد يرفع مستوى العيش، وبالتالي روح الاستهلاك لدى الأسر، ومن ثمّ فالنمو الاقتصادي في الدول المغاربية مفيد لها جميعا بشكل متبادل.

ما زال ارتفاع مستوى المعيشة لدى المواطن الجزائري يفيد السياحة التونسية، كما أن ارتفاع مستوى المعيشة لدى الأشقاء في تونس، سيوفّر سوقًا أكبر وإمكانات تصدير أعلى للشركات الجزائرية على غرار "كوندور" و"يوكوسوسيفيتال" وغيرهما.

لنكن واقعيين، ونترك جانبًا اعتبارات التاريخ المشترك واللغة والدين، لأن الاقتصاد يستند أساسًا إلى المصالح. كما أن العوامل المذكورة سابقًا على أهميتها لم تنجح منذ 50 سنة في تحقيق التحالف المنشود، خاصّة من طرف النخبة الاقتصادية لأنّها تعرف أهميته على المديين المتوسط والطويل، وصعود مراكز قوى أخرى في العالم على غرار جنوب شرق آسيا ودول منظمة الميركوسور، يُتيح فرصة ينبغي انتهازها قبل فوات الأوان لجعل شمال أفريقيا أحد أقطاب التجارة العالمية.

المساهمون