فارس نهاية الأحلام

28 يوليو 2017
(يبروان باران)
+ الخط -
ليلة صيفية؛ لا نسمات فيها؛ نسبة رطوبة تتجاوز الـ 50 %، جسد أشعلته الحرارة، ولم تطفئه المياه، تسكب على وجهها قليلًا من كوب الماء الذي وضعته بقربها على الطاولة، تبرّد به اللهب الذي تشعر به يخنقها، كل المحاولات تبوء بالفشل، استسلمت في النهاية، واختارت أن تصعد فوق سطح منزلها الذي يبعد عن شقتها مسافة خمسة عشر درجًا، ربما تجد في الأعلى متنفسًا لروحها.

كرسيٌ وطبق من الفاكهة، وكتاب، هي عُدّةُ شيرين لتمضية بضع ساعات بحثًا عن نسمة عليلة فوق السطوح، عوضًا عن المشي على الكورنيش. تعلم أن مطلبها يستحيل تحقيقه، في الأعلى لم يحفها الهواء، لكن حفتها السكينة، جلست وأبعدت عن رأسها زحام أفكار، امتد بصرها إلى السماء، بحثت في عقلها إن كان ثمّة ذكريات تشغلها عن متابعة تلك الأصوات التي تأتي من غرفة الجيران المقابلة للسطح، فالمساحات الضيقة في شوارع القاهرة حرمت أهلها خصوصياتهم.

لم تفلح المحاولة في أن توقفها عن تتبّع حركات الفتاة ذات الثامنة عشر ربيعًا، وهى تخبر أمّها عن رغبتها في الذهاب إلى رحلة مع أصدقائها إلى مدينة "دهب" المصرية المطلّة على البحر الأحمر، تعرف شيرين التي سكنت المنزل قبل عشرة أعوام، منذ تزوّجت في الحي العشوائي، أن الفتاة اقتربت من إنهاء تعليمها الجامعي، تمارس عددًا من الأنشطة بعيدًا عن الدراسة، وذلك لم يمنعها يومًا عن التفوّق، لم تقابل الأم رغبة ابنتها بالصراخ ولم تبادر إلى توعيتها بالالتفات إلى مذاكرتها، ونسيت قبل أن تمنحها موافقتها غير المشروطة، ذلك السبب الذي كانت تتحطّم عليه آمال شيرين كلما همّت بطلب من أمّها "لما تتجوزي سافري مع جوزك".

بابٌ مغلق لم تهتم السيدة الثلاثينية لفتحه، كانت قد نسيت تلك الأحلام التي توارت في الذاكرة، خلف أعبائها الجديدة، زوجة وأم وامرأة عاملة مستقلة، حياة سارت إليها مغمضة العينين، فلم تشأ أن تفتحها مرّة أخرى، لكن هاهي الفتاة العشرينية، طالبة الجامعة، في ليلة صيفية حارّة ترغمها على فتحها، فجأة زارتها كل أطياف الماضي، الذي تركته وراءها منذ سنوات أملًا في مستقبل ستحقّق فيه أحلامها "عاوزة أخرج مع أصحابي يا ماما.. لما تتجوّزي اخرجي مع جوزك"، "مش هنسافر نصيّف يا ماما.. لما تتجوزي ابقى صيّفي مع جوزك"، أخبرتها والدتها أن كل أحلامها ستتحقّق فور زواجها، وأن ذلك الفارس الذي سيخطفها على حصانه الأبيض ذات يوم سيكون هو طريقها نحو العالم الذي لم تره بعد.

لم تشك شيرين فيما تقوله الأم صاحبة الخبرة بالزواج، ولم تتوقّف أمام الصمت الذي يحيط بمنزلهم، وبغرفة النوم التي ينام فيها والدها بمفرده، ولا تزورها والدتها إلا دقائق معدودة كل أسبوع، أتى الفارس لشيرين، تزوّجت وأنجبت وفي ليلة حارّة كهذه، تذكّرت أنها لم ترَ العالم قط.

45 دقيقة تقطعها يوميًا في الطريق للعمل، ثلاثون منها تقضيها داخل عربات مترو الأنفاق، تتأمّل في وجوه الركاب، مرّة داخل عربة السيّدات، وأخرى في ركن منزو بالعربة المشتركة، تختلف الوجوه، وتتبدّل الملامح في كل يوم، إلا أن ثمّة شيئًا مشتركًا بينها، تراه هدى، ظاهرًا جليًا، تلك الحالة من الوجوم التي تسيطر على الجميع، تلك النظرة إلى المجهول، لا تعرف سببًا لماذا تشدها أعين الشباب، تتفرّس بها، وتتابع ضحكاتهم، وتصرفاتهم التي ينتقدها كبار من في العربة، تتذكّر كيف كانت يومًا ما مثلهم، تضحك بصوت مرتفع، تلقي النكات مع زميلاتها في الجامعة، تأكل الطعام داخل المترو دون الاهتمام بنظرات الناس، تضع أحمر الشفاه، وتضبط خط الأيلانير فوق عينها غير ملتفتة لعجلات المترو التي تنتفض أسفل مقعدها.

تتفاخر بقدرتها العجيبة بين زميلات الكلية، ولا تبالي لنظرات العجائز ممن تخطين الثلاثين، وينظرن إليها شزرًا، هاهي أضحت من العجائز، مرّت السنوات سريعًا، لا تعرف كيف تسرّبت سبعة عشر عامًا من بين يديها منذ تخرجها حتى اليوم، تحدثها الصديقات عن حالة الملل التي يعشنها، فارق عشر سنوات بينها وبين أقربهن إليها، لا تعرف لماذا اختارتها لتكون بذلك القرب، أهي الصداقة، أم رغبتها دومًا في أن تبدو أصغر، تسألها صديقتها دوما "تعالي نروح سينما يا هدى"، تتذكّر تلك المرة الوحيدة التي دخلت فيها السينما، جلست تشاهد آخر أفلام يوسف شاهين، بينما جنينها الصغير يدفع بقدمه داخل بطنها، ليخبرها أن موعد نزوله قد اقترب، من يومها لم تدخل السينما، ولم تعد تشاهد الأفلام.

قبل زواجها، كانت تعتقد أن كل أحلامها ستتحقّق، وأن الفسح والخرجات، والسينما والملاهي، والتسكّع في ليالي الشتاء تحت المطر، والسهر للفجر في شوارع القاهرة، والسفر في محافظات مصر، رؤية الأهرامات، وصعود برج القاهرة، وأن تستمتع بغفوة أسفل شجرة في حديقة الأسماك، أحلامٌ سيحققها من فض بكارتها، ستسمح له بهذا في مقابل أن يمنحها تلك الأحلام، لكنها لم تكن تعلم أن نقاط الدم لن تكون كافية، وأن عليها أن تذرف دمًا ودموعًا، على أحلام لم تعد في الإمكان، وأن عليها أن تجد حلمًا بديلًا، حلمًا ليس لها ولكنه لأطفالها الذين لم يتركوا لها بقية من حلم.

هدى وشيرين، مثلهم علياء، لم تختلف عنهم كثيرًا، إلا أنها لم تتزوّج رغم تمام الأربعين عامًا، لم يمنحها القدر تلك الفرصة التي تعد بها الأمهات بناتهن لتحقيق الأحلام، تركت عملها قبل سنوات لتتفرّغ لرعاية والدتها، بعد أن تزوّج جميع الأشقاء، قبل سنوات كانت علياء تهتمّ بالقراءة، هى متعتها الوحيدة، بعد أن حرمتها والدتها من أحلام مراهقتها وشبابها، حتى يأتيها "العدَل"، فتحت لها هوايتها عوالم أخرى، غير تلك التي تحياها، لكنها ظلت حبيسة الأوراق.

أحبت السينما فقرأت عنها، لكنها لم تدخلها، عشقت المسرح، فأتت بمجلة تخبرها عن كواليسه لكنها لم تشاهد خشبته، زارت الصين والهند، وجنوب أفريقيا، لكن عبر أبطال الروايات، عرفت دروب القاهرة القديمة، ومسالك مصر الجديدة، دون أن تسير يومًا في إحداها، بل مرّت بها عبر حكايا الكتاب، ووصف المبدعين، على أصابع اليد الواحدة.

تتذكّر علياء هؤلاء الفرسان الذين تقدّموا لخطبتها عبر أربعين عاما ويزيد، لكن واحدًا منهم لم يملك حصانًا قادرًا على تحمل ثقل وزنها الذي تركته أعباء الحياة على جسدها، ولا ثقل عقلها الذي امتلأ بقصص وأحلام لن يستطيع أحدهم أن يجعلها حقيقية فيما تبقى من عمرها، لم تحزن علياء على حلم الزواج، ولم تهتم لغياب الاسم المذكّر عن دفتر يومياتها، لكن جرحًا غائرا يؤلمها حين تتذكّر وعد أمها "لمّا تتجوزي إعملي إللي نفسك فيه".