"مروگْ الحرف".. استعادةُ نصٍ موسوعيّ من القرن التاسع عشر

08 ابريل 2017
(أمين مكتبة أحمد الشريف بشنقيط، تصوير: ريمي بينالي)
+ الخط -
صدر مؤخرًا عن مركز الدراسات الصحراويّة كتاب "مروّگْ الحرف". الكتاب الذي لا يُعرَفُ له حتّى الآنَ مؤلف، يرجعُ تاريخ ميلاده إلى بداية منتصف القرن التاسع عشر الميلادي جنوب موريتانيا الحاليّة.

يُعدّ الكتاب أوّل وثيقةٍ لهجيّة حول مظاهر الحياة القديمة في ما يُعرف اليوم بـ موريتانيا، وكان قديمًا يعرفُ تحت مسمّياتٍ عديدة؛ كـ"بلاد البيضان" و"شنقيط".. إلخ. فحتّى قبل فترةٍ قصيرة جدًا من صدوره المُفاجئ، لم يكن أيُّ شخصٍ في موريتانيا على علمٍ بوجود هذا الكتاب الفريد من نوعه.

لذا كان من الطبيعيّ جدًا أن يثيرَ الكتابُ اهتمامًا متحمّسًا عند الأكاديميين والباحثين والمهتمّين في البلاد فور صدوره مُحقّقًا، وذلك بوصفه كتابًا ينتمي إلى ما قبل قرنيْن من الزمن تقريبًا، عندما كانت وتيرة الحياة في هذا الجزء من الأرض يومها محكومة على نحوٍ شديد بأكثر الأشياء تقليديّة.

يُشيرُ عنوانُ هذا الكتاب اللهجيّ بشكلٍ مباشرٍ إلى فرادة مضمونه، التي شكّلت خاصيّته المُميّزة. فالكلمة "مروگْ الحرف" إشارةٌ تنبيهيّة واضحة، من المؤلّف المجهول، إلى أنّ كتابه سيمارسُ نوعًا من المروق المنهجيّ والأسلوبيّ والمضمونيّ على المدوّنة التأليفيّة السائدة المهيمنة يومها، والتي تدور حول نوعيّةٍ معينة من المواضيع كـ: الفقه والأنساب والعقيدة والتاريخ وآداب اللغة العربيّة وغير ذلك، من مواضيع التصنيف المرسّمة على نحوٍ يجعلُ من مخالفتها، بأيّ شكلٍ من الأشكال، جريمةً نكراء. على أنّنا نجدُ المؤلّفُ المجهول قد اعترفُ بـ"مروق" كتابه، دونَ ضجيجٍ كبير، وكأنه فعل ذلك استباقًا للاتهامات القادمة إليه من حرّاس المدوّنة المؤطّرة.


ماذا وراء تأليف الكتاب؟
في عام 1821 قامت فرنسا بتأسيس الجمعية الجغرافيّة، التي تعدّ اليوم أقدم جمعيةٍ جغرافية في العالم، سعيًا للقيام بجولاتٍ استكشافيّة تخدمُ طموحاتها الاستعماريّة، وكان لهذه الجمعيّة اهتمامٌ خاصّ بغرب أفريقيا، انعكسَ في حضورها الدائم على نهر السنغال، عبر الاتصال بالحاكم الفرنسيّ بارون روجيه.

كان روجيه يشتغلُ على تحقيق سياسات فرنسا، في تلك المنطقة. لذلك فقد كلفَّ قسًا يدعى دافيد بوالا بجمع معلوماتٍ عن المجال الجغرافي للسنغال وجواره، أي الأراضي الموريتانيّة، بصفةٍ خاصّة. كان القس بوالا، المولود 1814 في "اندرْ" لأبٍ فرنسيّ وأمٍ سنغالية، مهتمًا بموريتانيا بشكلٍ كبير وكتب عنها عدّة نصوص. ولتنفيذ ما طلبَ منه روجيه اتصلَ بوالا بدوره بوسيطٍ مُعتبَر من جمّاعة الفلان، ليجمعَ له هذه المعلومات المطلوبة حول السكّان وعاداتهم ولغتهم وأنماط حياتهم في ظلّ النظام الأميري.

بدوره أيضًا اتصلَ الشخص الفلانيّ المعتبر، بصديقٍ له من جماعة البيضان في منطقة الترارزة المحاذية لنهر السنغال، وطلبَ منه جمع تلك المعلومات المطلوبة في نصٍّ مكتوب. وقد جمع هذا الصديقُ المعلومات المطلوبة في نصٍ لصديقه الفلانيّ، الذي يرجحُ بشكلٍ كبير أنه أحد الشخصيتيْن الوازنتيْن في منطقة فوتا طورو: دادياكا أو أحمد غيلاديو، واللذين كانا يزوّدان القس بوالا بالوثائق والنصوص المتعلّقة بموريتانيا وفوتا طورو.

وكانت هذه المعلومات التي جمع الشخص البيضانيّ لصديقه الفلانيّ في نصٍ بعنوان "مروگْ الحرف" دون اسمه، قد سُلمّت للقسّ بوالا. وعندما استلمَ هذا الأخير النصّ من الوسيط الفلانيّ، لم يكلّف نفسه عناء معرفة مؤلّفه، ثم غيّر عنوانه الأصليّ بـ"عادات وتقاليد بيضان السنيغال"، وأهداه، صحبة دفاتر أخرى، إلى بارون روجيه، طالبًا منه تسليمه للجمعيّة الجغرافيّة في باريس.

هذه القصّة حول أصل الكتابُ تؤكّدُ لنا، أنّ عملية تأليفه تمّت بطلبٍ موّجه لا يفسحُ مجالًا لعامل الصدفة. فمن خلال استعراض القصّة أعلاه يبدو لنا أنّ نص الكتاب لم يأتِ وليد صدفةٍ محضة، بقدر ما جاء بطلبٍ وإيعازٍ موجّهيْن.

وتوضّح لعبة الوسائط المركبة، التي مهدّت اتصالاتُها لإنتاج الكتاب، أنّه جاء لغرضٍ استشراقيّ يخدمُ الأجندة الاستعمارية لفرنسا حينذاك. ولكن ما لا نعرفُ عنه شيئًا، عبر متاهة الوسائط هذه، هو جواب السؤال: هل كان المؤلّف المجهول على علمٍ بأنّ كتابه كان مطلبًا استشراقيًا واستكشافيًا لصالح فرنسا؟ لا إجابة متوفّرة الآن.

في البنية والشكل
كُتب "مروگْ الحرف" باللّهجة الحسانيّة، التي تعدّ اللهجة الرئيسة في موريتانيا. وكما يبدو واضحًا، من خلال نص الكتاب، فإنّ شكل الحسانية المُستخدمْ هو شكلٌ كلاسيكيّ مختلف قليلًا عن الشكل السائد الآن؛ فعددٌ لا بأس به من مفرادات الكتاب الحسانيّة هي مفرادتٌ مهجورة أو ذاتُ أصلٍ أمازيغيّ، الأمرُ الذي استدعى من المحقّق سيدي أحمد ولد الأمير شرحًا دائمًا في الحواشي، يبيّن المقصود منها و يقوم بتأصيلها أحيانًا. ومع ذلك فالكتاب بعد تحقيقه مفهومٌ بالنسبة لكل الناطقين باللهجة الحسانيّة اليوم. وهو يستعرضُ قصصًا شعبيّة حول الحيوانات، وأشعارًا عاميّة محليّة، وترجمةً حسانيّة لقصصٍ من "المُستطرف" للإشبيهيّ، وحوراتٍ بين تجّار الصمغ، واستعراضًا لأعلامٍ قبلييّن، وأوصافًا متعدّدة للسكّان المحليّين وللفرنسيين، عارضةً حسناتهم وسيئاتهم معًا، مع تناوله أيضًا، بشكلٍ معجميّ حسانيّ فريد: أشكال النبات والأشجار والأعشاب والحيوانات ومراحل تطوّرها، ومراحل الإنسان العمريّة وأعضائه مع إضاءاتٍ حول أمورٍ فلكيّة.

يستخدمُ المؤلف أسلوبًا عاريًا ولاذعًا، في تشبيهاته وسرد رؤاه، درجةَ جعله من الحسانيّة عرضًا صوريًا دقيقًا. فمن خلال هذا الاستخدام الفريد يبدو واضحًا أثر تحويل اللّهجة من حالة النطق المحصورة فيها إلى عالم الكتابة الرحب، محتفظة مع هذا التحوّل بحراراتها الدلاليّة العميقة والصريحة.

هذا التحوّل الواعي من المنطوق إلى المكتوب كان له أثره الشديد، في إظهار المفردات داخل صيغةٍ أشدّ وقعًا من الصيغة الرتيبة المعهودة في حالة النطق. لذا فالكتابة بالحسانية هي تفكيرٌ بها في المقام الأوّل، أي جعلها تعبّر عن مضامين الثقافة التي تمثلها بشكلٍ حقيقيّ دون شعورٍ بالغربة.

وعبر الأوصاف والتشبيهات المُستخدمة في الكتاب، يتمّ التعبير عن منظورات تلك الثقافة الاجتماعية إزاء الآخر الداخليّ أو الخارجيّ. فهي الأوصافُ والتشبيهاتُ نفسها التي يستخدمها الناطقون بهذه اللهجة في حياتهم اليوميّة بعفويّةٍ تامة تعبيرًا عن معاييرهم لـ: التقي والفاجر، الطاهر والنجس، العالم والجاهل، الأفضل والأسوأ، الجميل والقبيح، الشجاع والجبان، النبيل والحقير، الكريم والبخيل، الرجل والمرأة، الذكي والغبي، الحرّ والعبد. وغيرها من معايير ثقافيّة واجتماعيّة مُوّجهة.

ما يُظهر أن الفارق الوحيد في استخدام هذه المنظورات، داخل نصّ الكتاب، هو فارقٌ يتمّ على مستوى التعبير الأسلوبيّ دون أن يصل للمضمون القيميّ، ما يجعلُ من الوجاهة القولُ إنّ الكتاب جسّد، على حدّ تعبير عبد الودود ولد الشيخ في تقديمة له: "قطيعة مبيّتة مع الممارسة المعتادة، لأنّ المؤلّف اختار نوعًا ما أن يتموضع "خارج النهج" المهيمن، وهذا ما تجسّده تلك الجرأة المتمثلة في الكتابة بالحسانية، فالميزة الخطية ظلّت خاصّة بالعربية الفصحى وما كان للحسانية فيها مطمع"، ولكن من دون أن يبتعدَ كثيرًا في نظرته ورؤيته عن المنظور المجتمعيّ الصارم للحياة والأشياء.

أكاديميًا الكتابُ يشكلّ وثيقة تاريخيّة فريدة، من شأن الرجوع إليها أن يُساعد على فهمَ الحياة القديمة في تجليّاتها المتعدّدة، كما أنه يشكّل إبداعيًا قيمةً جماليّة كبرى، لاستطاعته تهيئة المنطوق الحسانيّ للكتابة دون أيّة خسائر. فالكتابة هنا هي جعل الحسانيّة قابلة للتجلّي في شكلٍ جديد، وقد استطاع المؤلّفُ أن يبلغ أقصى ذلك التجلّي. فمخالفة تقليد الكتابة بالفصحى المهيمن لا يمكنُ كسره إلاّ عبر مجازفة كبرى كهذه. مجازفة لم يعش النص تأثيراتها في ما سبق من حياته مخطوطًا في إحدى خزائن المكتبة الوطنيّة بباريس، بينما يتوقّعُ له ذلك اليومَ بعد صدوره الملفت.

المساهمون