تلوث المياه في ليبيا... أطفال المدارس يدفعون الثمن من صحتهم

يلتهم بند الرواتب ميزانية وزارة التعليم
23 نوفمبر 2021
+ الخط -

تحولت مياه المدارس الليبية إلى مصدر لنشر الأمراض بين الأطفال، إذ تلوثها مستويات خطرة من البكتيريا والمعادن الثقيلة، نتيجة اختلاطها بالصرف الصحي، في بلد لا تنقصه الأموال اللازمة لإصلاح المنظومة التعليمية.

- يعاني التلميذ الليبي سالم منصور (11 عاما)، من حساسية شديدة وتقرحات في يديه بسبب المياه الملوثة في مدرسته بقرية أبو عيسى التابعة لبلدية الزاوية الغرب شمال غرب البلاد، وفقا لرواية جدته امباركة محمد منصور والتي لمست أثر المياه الملوثة على الطلبة طوال مسيرتها العملية في قطاع التعليم التي استمرت 32 عاما كمعلمة ومديرة مدرسة ثم مفتشة تربوية، مؤكدة أن المشاكل الجلدية واحدة من تبعات المياه التي تمكنت هي وزملاؤها من قياس نسبة ملوحتها بجهاز مخصص لذلك، ليجدوا أن درجتها تصل إلى 5000 ملغم/لتر، بينما حددت منظمة الصحة العالمية في المبادئ التوجيهية بشأن معايير جودة مياه الشرب، سقفا أعلى لملوحة الماء وهو 1000 ملغم/لتر مع تفضيل أن يكون أقل من 500. 

وتتضح مؤشرات تلوث المياه عبر المذاق المر والطعم غير المستساغ، نتيجة اختلاطها بالصرف الصحي، كما تقول منصور التي تقول:"اهتمام الوزارة بنظافة مياه المدارس بات معدوما، إذ كانت توفر سابقا معقمات مثل الكلور لقتل البكتيريا أو الفيروسات في خزانات المياه بالمدارس، لكنها لم تعد تصل"، مضيفة أنها راسلت خلال وجودها على رأس عملها بلدية الزاوية الغرب مرات عديدة بخصوص ذلك، ووعدت البلدية بإيجاد حل عن طريق ربط المنطقة بمحطة تحلية المياه وهذا لم يحدث. وهو ما تؤكده كريمة بركة، المهندسة في الشركة العامة للمياه والصرف الصحي قائلة :"نسبة كبيرة من مياه الآبار التي تغذي المدارس والمنازل ملوثة بمياه الصرف الصحي وغير صالحة للشرب وتسبب أمراضا". 

تفاقم مشكلة تلوث المياه في ليبيا، تثبته دراستان، الأولى أجراها الأساتذة بقسم الهندسة الكيميائية في كلية التقنية الهندسية بجنزور والمنشورة في المجلة العلمية "ليبيا للعلوم التطبيقية والتقنية" بالإصدار الأول عام 2013 عن تلوث المياه الجوفية بمياه الصرف الصحي في منطقة الزاوية الجديدة نتيجة افتقارها إلى شبكات الصرف الصحي، ما يجبر السكان على استخدام الآبار السوداء (خزان يحفر تحت الأرض لمياه الصرف الصحي)، ونتيجة لعدم تبطين هذه الآبار بطبقات عازلة عند إنشائها يتسرب الصرف الصحي إلى المياه الجوفية، ومعه العديد من الملوثات، وينطبق الحال على مدينة أجدابيا كما تبين دراسة هيدروكيميائية لبعض آبار المياه الجوفية أُعلنت نتائجها في المؤتمر العلمي الرابع للبيئة والتنمية المستدامة بالمناطق الجافة وشبه الجافة المنعقد في مدينة أجدابيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، إذ اتضح أن البكتيريا الموجودة في أغلب العينات هي بكتيريا الإشريكية القولونية "إي كولاي" وملوثات أخرى جعل مياهها غير صالحة للشرب.


%54 من العينات المخبرية تؤكد تلوث مياه الشرب في مدارس ليبيا
 

غير أن تلوث مياه المدارس تحديدا، يوثقه تقييم حول جودة المياه ومرافق الصرف الصحي أعدته اليونسيف بالتعاون مع المركز الوطني لمكافحة الأمراض التابع لوزارة الصحة خلال الفترة الممتدة من ديسمبر/كانون الأول 2016 وحتى مايو/أيار 2017، ونشرت نتائجه في مايو 2018، والتي أظهرت أن نصف المدارس التي كانت مشمولة في العينة وعددها 140 مدرسة توزعت على المناطق الغربية والشرقية والجنوبية، تعاني من رداءة نوعية المياه ونقصها، و54% ملوثة بالبكتيريا.

 ملوّثات خطرة تهدد صحة الأطفال 

جاءت نتائج اختبار مجموع "كوليفـورم" Coliform bacteria وهي البكتيريا القولونية البرازية موجبة في 46% من عينات مياه المدارس، في حين أنها يجب أن تكون صفرا وفق القيمة المعتمدة من قبل منظمة الصحة العالمية، وكذلك كانت نتيجة اختبار تقييم بكتيريا إي كولاي"E.Coli" موجبة في 10% مـن عينـات الميـاه، وتركزت في المناطق الغربية والجنوبية، وتعتبر هذه البكتيريا مهددا لصحة الطلبة كونها تسبب الإسهال الذي يؤدي إلى جفاف حاد، بحسب التحليل المخبري الذي أجرته اليونيسف وحصلت "العربي الجديد" على نتائجه.

الصورة
تحقيق ليبيا 3

وأظهرت نتائج استبيان رأي غير قياسي نفذه معد التحقيق شمل 86 ولي أمر يتوزعون في المنطقة الغربية والشرقية والجنوبية، أن 47.7 % منهم أجابوا بأن أبناءهم تعرضوا لمشاكل صحية في فترات سابقة بسبب مياه المدرسة، إذ عانى 26.7% من الإسهال المتكرر في فترات الدراسة، كما عانى 26.7% من التهاب المسالك البولية، وبحسب الدكتورة هدى البراني، أخصائية طب الأطفال ورئيسة قسم الأطفال في المجمع الصحي البدري الحكومي بالعاصمة، فإن الإسهال من أكثر الأعراض التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتلوث الناتج عن الميكروبات سواء كان في ماء الشرب أو الطعام الملوث، وهنا يكون من العوارض قصيرة الأمد، من جهة أخرى قد يكون الإسهال عارضا لأمراض مزمنة ناتجة عن الطفيليات مثل التي تسبب الزحار الأميبي (التهاب واضطراب في الأمعاء)، وهذا ناتج عن تناول مياه ملوثة بمخلفات الصرف الصحي، وتبين إحصائيات المركز الوطني لمكافحة الأمراض أن حالات الإسهال الحاد التي أبلغ عنها في الفترة الممتدة بين 28 سبتمبر/أيلول و4 أكتوبر/تشرين الأول 2020 بلغت 620 حالة لكن التقرير لم يحدد سن الحالات أو المسببات.

الصورة
تحقيق ليبيا1

وألحقت المياه الملوثة الضرر بأسنان الأطفال مسببة الفلوروسيس "السعفة" أي اصفرار الأسنان لـ 16.2% من الأطفال، وفق ما أظهرته نتائج الاستبيان، وهو ناجم عن ابتلاع كمية زائدة من الفلوريد (عنصر معدني)، والذي فاقت نسبته في 9% من العينات الحدّ المقبول وقدره 1.5ملغم/لتر، بحسب التحليل المخبري، إذ يؤدي التعرض لتركيزات عالية من الفلوريد وعلى فترات طويلة إلى تسمم مينا الأسنان والهيكل العظمي، وفي حال كانت نسبته غير كافية وبلغت أقل من 0.5% كما ظهر في 57% من العينات، يعتبر مصدر قلق على الصحة العامة أيضا، بحسب دراسة لمنظمة الصحة العالمية منشورة على موقعها بعنوان "الوقاية من المرض من خلال بيئة صحية- الفلوريد غير الكافي أو الزائد: مصدر قلق رئيسي للصحة العامة".

وسُجلت مستويات عالية من النترات في 31.4% من العينات، إذ بلغت أعلى قراءة 72 ملغم/لتر، بينما يصل الحد المسموح به وفق المواصفة الليبية لعام 2008 إلى 10 ملغم/لـتر، ومتوسط الحد المسموح به دوليا حسب منظمة الصحة العالمية 50 ملغم/لـتر. وتوضح البراني أن زيادة كمية النترات في المياه عن الحد المسموح به تسبب أضرارا صحية مختلفة، أهمها ما يعرف بمتلازمة الطفل المزرق عند الأطفال، حيث يعرقل هذا المركب عمل الهيموغلوبين ويعيق نقل الأوكسجين في الدم، وهذه حالة خطيرة قد تؤدي إلى الوفاة عند الأطفال خاصة في الستة أشهر الأولى من العمر.

الصورة
تحقيق ليبيا4

أما بالنسبة للبالغين فمركب النترات قد يسبب الغثيان والمغص والصداع وكذلك خفقانا في القلب، وقد يتحد مع المركبات الأمينية (مركبات عضوية تتحدّ مع بعضها لتكوين البروتينات) والأميدية (مركبات عضوية تحتوي مجموعة وظيفية تدعى الأميد وهي عبارة عن زمرة كربونيل متصلة بزمرة أمين) في الجسم مكونا مركبات مسرطنة حيث تمكن الباحثون من إثبات ذلك في تجارب معملية على الحيوانات.

ويسهم هذا التلوث في تزايد انتشار السرطان بين الليبيين إذ بلغ عدد الإصابات الجديدة عام 2020، 7661 حالة، ووصل عدد الوفيات إلى 4750 حالة وفاة في نفس العام، بحسب إحصائيات نشرتها منظمة الصحة العالمية في ورقة حقائق عن ليبيا.

 لا رقابة على جودة المياه 

تقرّ مديرة إدارة الخدمة الاجتماعية والصحة المدرسية في وزارة التعليم بحكومة الوحدة الوطنية الدكتورة فوزية بن غشير، بأنه لا يوجد لدى الوزارة أي برنامج لمراقبة جودة المياه كما أنها لا تقوم بإجراء أي اختبارات عليها، إذ ألغي برنامج التفتيش الصحي في التسعينيات، بعدما كان يختص بالتفتيش وتنفيذ زيارات دورية للمدارس لمراقبة دورات المياه والخزانات، ووجبات التلاميذ وحتى التطعيمات ومكافحة الأمراض المعدية. 

وفي الوقت الراهن، يوجد قسم للصحة المدرسية، لكن التفتيش الصحي ليس من ضمن مهامه، بحسب البشير الأخضر مراقب التعليم في الزاوية، مضيفا أن العهدة المالية التشغيلية التي تعطى لكل مدرسة في كل فصل دراسي مخصصة للصيانة البسيطة، ومرتبطة بعدد الطلبة وعدد الفصول ولا يوجد فيها أي بند يتعلق بمراقبة جودة المياه، وهو ما أوضحته نتائج تقييم اليونيسف، إذ تعتمد 7% فقط من المدارس المشمولة بالعينة برنامجا فعـالا لمراقبـة نوعيـة الميـاه والصرف الصحي.

ملوّثات خطرة تهدد صحة الأطفال

 رغم ذلك، تعتبر بن غشير أن عدد المدارس المشمولة في تقييم اليونيسف لا يمثل العدد الحقيقي للمدارس، متذرعة بالقول إنه لو كانت مياه المدارس ملوثة بالجراثيم فعلا لانتشرت في البلاد الإيبولا وأمراض أخرى، لكن الدكتورة البراني، تؤكد أن أولياء الأمور يمنعون أطفالهم من شرب مياه المدرسة لمعرفتهم أنها غير صالحة للشرب، لذلك لم تكن نسبة الضرر كبيرة، ولو كانوا يشربونها لحدثت كوارث، وبينت إجابات أولياء الأمور الذين شاركوا في الاستبيان أن 26% منهم يزودون أطفالهم بعبوات مياه. 

وبلغ عدد المدارس في ليبيا 4300 مدرسة، تضم مليونا و600 ألف تلميذ حتى عام 2020، وخصص المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطنية في العام الماضي 7.6 مليارات دينار (1.66 مليار دولار أميركي) لوزارة التعليم موزعة على 63 جهة تابعة للوزارة، منها حوالي 20 مليونا و564 ألف دينار (4.5 ملايين دولار) ميزانية تشغيلية للمدارس بحسب جدول رقم (3-16) من الموازنة، لكن الجزء الأكبر من المخصصات يذهب لرواتب الموظفين والعاملين في الوزارة، وفقا لتصريحات لوزير التربية والتعليم السابق علي عبيد في عام 2013، إذ يصف ميزانية الوزارة بأنها "وهمية" لأن 92% منها يذهب لمرتبات الموظفين، ولا يبقى سوى 8% منها للبنود الأخرى، لذلك فإن تأخر وضع حلول للمدارس المتهالكة يعود إلى العيوب التي تشوب قانون صرف الميزانية"، وفق قوله. 

مرافق صحية متهالكة

أظهرت البيانات التي حلّلتها اليونيسف خلال الدراسة التي أجريت في المدارس أن 94% منها ليس لديها برنامج لصيانة دورات الصرف الصحي، كما أن عدد دورات الصرف الصحي العاملة حالياً لا يلبّي احتياجات الطلبة ولا يتناسب مع أعدادهم، إذ يبلغ متوسط عدد الطلبة الذين يستخدمون المراحيض القائمة 71 طالباً، في حين أن معايير وزارة التربية والتعليم تنصّ على وجود مرحاض واحد لكل 25 طالباً، كما تفتقر غالبية المدارس لوجود الصابون في منطقة غسل اليدين رغم أهميته، وذلك بسبب عدم كفاية الأموال المخصصة للوازم والصيانة، وفقاً لنتائج تقييم اليونيسف.

ويترتب على ذلك انتشار التهابات المسالك البولية التي تعدّ من المشاكل الصحية الأكثر شيوعاً لدى الأطفال، حيث تنجم معظم الحالات عن دخول البكتيريا إلى المجاري البولية وتنتقل للأعلى باتجاه المثانة ثم الكلى، وفق توضيح البراني، مؤكدة أن العوامل التي تزيد من نسبة الإصابة بها قلة شرب المياه وكذلك حصر البول لفترات طويلة وعدم دخول دورات المياه عند الحاجة لذلك، ولهذا السبب فإن الأطفال في المدرسة هم الأكثر عرضة للإصابة بهذه الالتهابات في ظل عدم توفر دورات مياه في المدارس وإذا توفرت فإنها ليست بالمواصفات الصحية المطلوبة، بما يسهم بشكل كبير في تفشي العدوى، كما أن بكتيريا إي كولاي الملوِّثة لمياه الشرب مسؤولة عما يزيد عن 85% من التهابات المسالك البولية لدى الأطفال.

ممارسات غير صحية

يؤكد الدكتور إدريس القايد استشاري الأطفال والمستشار الطبي السابق لمنظمة الصحة العالمية، غياب الدراسات والإحصائيات المتعلقة بالأمراض التي تسببها المياه الملوثة، قائلا "لا توجد لدينا أي دراسات أو إحصائيات بخصوص تفشي الإسهال أو غيره من الأمراض لدى أطفال المدارس سواء بسبب المياه الملوثة أو غيرها من الأسباب، مثلا الإسهال، لا يتم في العادة تشخيص أسبابه لدى معظم الحالات، ولا يتم أخذ التحليل الميكروبي اللازم لتشخيص الحالة والاكتفاء بإعطاء الأطفال بعض الأملاح التعويضية ونصح الوالدين بإكثار السوائل".

الصورة
تحقيق ليبيا 2

ويبين الاستبيان الذي أجراه معدّ التحقيق أن 69.5% من أولياء الأمور المستجوبين لم تُعلمهم مدارس أبنائهم بخصوص تلوث المياه في المدراس، وكانت 3 مدارس فقط أعلنت عن تلوث المياه فيها إحداها في طرابلس والأخرى في مدينة الزاوية والثالثة في مدينة بني وليد شمال غرب ليبيا، ولم تتعطّل الدراسة بسبب تلوث المياه إلا في المدرسة الواقعة في طرابلس. وأجاب 84% من أولياء الأمور بأن الجهات المعنية، كوزارة الصحة أو التعليم، لم تتخذ أي إجراء يذكر بشأن تلوث مياه المدارس.

وتشيع ممارسات متعلقة بالشرب داخل المدارس من شأنها نقل العدوى والأمراض بين الأطفال، مثل استخدام كوب كبير يشرب منه جميع التلاميذ، بحسب خالد غلام، أستاذ الإعلام في جامعة طرابلس ووالد تلاميذ بمدارس ابتدائية، قائلا: "الميـاه الصالحـة للـشرب ودورات المياه النظيفة في المدارس حق أساسي لجميع الأطفـال والافتقار لها يؤثر على التحصيل العلمي، وعامـل لانتشـار الأمـراض".