التعبئة الخفيّة... كيف جنّد الكرملين مئات الآلاف للقتال في أوكرانيا؟

التعبئة الخفيّة... كيف جنّد الكرملين مئات الآلاف للقتال في أوكرانيا؟

19 فبراير 2024
أعاد الكرملين النظر في أجور العسكريين بعد بدء حرب أوكرانيا (Getty)
+ الخط -

يجيب التحقيق عن سؤال كيف تُبقي السلطات الروسية العدد الكافي من الأفراد على جبهة أوكرانيا من دون تعبئة جديدة قد تُغضب الرأي العام، على غرار التي أعلنها الرئيس فلاديمير بوتين، في سبتمبر 2022 وسبّبت فرار مئات الآلاف.

- يلاحظ الأربعيني الروسي أليكسي في كل مكان يذهب إليه، إعلانات تزخر بها المراكز التجارية والشوارع ووسائل النقل في موسكو بداخلها صورة براقة لثلاثة مقاتلين وتتوسطها عبارة "مهنتنا الدفاع عن الوطن"، وتدعو إلى التعاقد مع وزارة الدفاع عبر حثّ الذكور على الالتحاق بصفوف قوات الجيش المشاركة في أعمال القتال شرقيّ أوكرانيا.

ويحمل أليكسي، كما طلب تعريفه خوفاً من ملاحقته قانونياً، درجة تعليم متوسطة، وسبق له أداء الخدمة العسكرية، غير أنه فكر جدياً في الالتحاق مرة أخرى بالجيش لتحسين أوضاعه المادية وتقاضي أجر يفوق أضعاف راتبه في وظيفته الحالية، ولكنه تراجع عن خطته بعد إقناع أهله بأنه لا مبالغ مالية تستحق مثل هذه المخاطرة، كما تقول أمه التي فضلت هي الأخرى عدم ذكر اسمها خلال حديثها مع "العربي الجديد".

وبينما رفض أليكسي، يتفاعل غيره إيجاباً مع الإعلانات والامتيازات والمغريات المالية للالتحاق بالخدمة العسكرية مع ذكر قيمة الأجور بالأرقام في بعض الأحيان، وهو ما يساعد السلطات الروسية على الإبقاء على العدد الكافي من الأفراد على الجبهة من دون تعبئة جديدة قد تغضب الرأي العام، على غرار تلك التي أعلنها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سبتمبر/أيلول 2022 وسبّبت فرار مئات آلاف الذكور، وفق إجماع مصادر التحقيق.

تعبئة غير معلنة

التحق 500 ألف فرد، بين جنود متعاقدين ومتطوعين، بالقوات الروسية في أوكرانيا في العام الماضي، بحسب البيانات التي كشف عنها نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس السابق، دميتري مدفيديف، في يناير/كانون الثاني الماضي، و"هو ما يساعد السلطات الروسية على تجنب إعلان تعبئة جديدة"، كما يقرّ ممثل مشروع "اذهبوا إلى الغابة" المعنيّ بمساعدة الذكور على تجنّب الذهاب إلى الجبهة، إيفان تشوفيليايف، قائلاً لـ"العربي الجديد": "التعبئة الخفية هي الوصف الأكثر دقة لما يجري، خصوصاً أنّ بوتين لم يوقع أي مرسوم ينص على إنهاء التعبئة الجزئية".

500 ألف فرد بين جنود متعاقدين ومتطوعين التحقوا بالقوات الروسية في أوكرانيا 

ورغم إعلان وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من العام قبل الماضي، استيفاء خطة استدعاء 300 ألف فرد والتوقف عن التعبئة وإخطار السكان بفعالياتها، إلا أنه لم يُنشَر أي مرسوم رئاسي بشأن إنهاء التعبئة، وهو ما أرجعه الكرملين إلى انعدام الضرورة لمثل هذا المرسوم من وجهة النظر القانونية، وفق ما أوضحه الناطق الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف.

ويضرب تشوفيليايف أمثلة على أساليب السلطات الروسية في تعبئة الأفراد للقتال في أوكرانيا، مضيفاً: "يُقنَع أفراد الخدمة الإلزامية بالتعاقد لإرسالهم إلى الجبهة (في روسيا تقتصر المشاركة في أعمال القتال على العسكريين المتعاقدين والمحترفين، بينما يؤدي أفراد الخدمة الإلزامية مدتهم داخل البلاد فقط، طالما لم يتعاقدوا)، كذلك تجري تعبئة المتعاقدين من بين العسكريين السابقين عبر إغرائهم بالمال، ويستمر تجنيد المساجين للقتال مقابل العفو عنهم، ولا يمكن تسمية ذلك إلا بالتعبئة غير المعلنة".

وكان بوتين قد جدد في يونيو/حزيران الماضي تأكيده عدم وجود خطط لإيفاد أفراد الخدمة الإلزامية إلى منطقة القتال، مشيراً إلى تقديرات وزارة الدفاع بانعدام الضرورة لذلك، وحول رؤيته لأسباب عزوف السلطة عن إعلان تعبئة جديدة، يتابع تشوفيليايف: "بينت تعبئة عام 2022 أن السكان مستعدون لتقبّل ارتفاع الأسعار ومحتوى أي دعاية تُبَثّ على شاشات التلفزيون طالما تبقى أوكرانيا والحرب بمنأى عنهم، ولكن التعبئة ولّدت شعوراً بأن الحرب مسّت بكل شخص".

ويقلل من أهمية المزاعم بوجود عقد اجتماعي في روسيا يضمن قدراً من الأمان والرخاء للمواطنين مقابل نأيهم بأنفسهم عن السياسة، قائلاً: "تقتصر أي عقود اجتماعية في أحسن الأحوال على موسكو وسانت بطرسبورغ اللتين تتجنب السلطات إغضاب سكانهما، ولكن التعبئة الجزئية بينت أن مثل هذه الطريقة غير سارية، لا في سيبيريا ولا في شمال القوقاز الذي تحملت جمهورياته أكبر ضغوط التعبئة".

ومنذ تأسيسه، قدّم "اذهبوا إلى الغابة" استشارات لـ17 ألف شخص، وكان 11 ألفاً من الطلبات متعلقة بقضايا التعبئة مثل إخطارات الاستدعاء إلى لجان التجنيد والمسؤولية عن التخاذل عن الحضور، وتليها الاستشارات في قضايا التجنيد، مثل انتهاك الحقوق وتوزيع إخطارات الاستدعاء في سكن الطلاب وبالجامعات بواقع 5 آلاف استشارة.

أجور مغرية

يقرّ مدير مركز بحوث مجتمع ما بعد الصناعية (منظمة غير ربحية مستقلة)، فلاديسلاف إنوزيمتسيف، بأن الكرملين أعاد بعد بدء الحرب النظر في سياسات تحديد أجور العسكريين مع تسويتها فعلياً بأجور مقاتلي "فاغنر" قبل الاستغناء عن خدماتها.

ويقول إنوزيمتسيف الذي تدرجه وزارة العدل الروسية على قائمة "العملاء للخارج" (تعني أنه متهم بتلقي تمويل من الخارج أو يخدم المصالح الخارجية، وهو أمر يغلق أمامه أبواباً كثيرة داخل روسيا)، في حديث لـ"العربي الجديد": "خلال الـ 24 شهراً الأخيرة، أعاد الكرملين النظر في الأجور المالية للعسكريين بشكل جذري. عند بدء العملية العسكرية الخاصة، لم تكن هناك نيّات للإنفاق على الأفراد كثيراً. كان يجري التأكيد أن المتعاقدين هم الذين يقاتلون، لكن لم تُرفَع أجورهم، وكانت تبلغ نحو 42 ألف روبل للمقاتل (حوالى 600 دولار وفقاً لسعر الصرف السائد حينها) فقط، حسب الأرقام الرسمية".

بوتين جدد في يونيو الماضي تأكيده عدم إيفاد أفراد الخدمة الإلزامية إلى منطقة القتال

ويجزم بحدوث تحوّل في عقل السلطات التي قررت تحويل الجيش بأسره إلى وسيلة للارتزاق، مضيفاً: "كان يقال في السابق إن مرتزقة "فاغنر" يتقاضون مبالغ طائلة، واليوم أصبح الجيش كله على هذه الحالة. تدرك السلطات أن السكان لا دوافع أخرى لهم للالتحاق بالجيش".

ويتفق المحلل السياسي والصحافي المتخصص في الشأن الأوكراني المقيم في موسكو، ألكسندر تشالينكو، مع الرأي السابق، مؤكداً أن منح أجور مغرية للمقاتلين أحدث نقلة كبيرة في كفاءة الملتحقين بصفوفهم، مقارنة بما كان الوضع عليه عند بدء العملية العسكرية في فبراير/شباط 2022.

ويقول تشالينكو الذي زار مناطق القتال شرقيّ أوكرانيا عدة مرات، في حديث لـ"العربي الجديد": "في بداية عام 2022، كان ثلثا الجيش الروسي مكونين من شباب ينحدرون من مناطق فقيرة وغير متطورة ذات درجة منخفضة من الرعاية الاجتماعية، ظناً منهم أن الخدمة العسكرية تقتصر على المشاركة في الاستعراضات العسكرية، فبات العديد منهم يفسخون عقودهم عندما وجدوا أنفسهم بمنطقة نزاع حقيقي".

ويلفت إلى أن مستوى كفاءة العسكريين والمقاتلين الروس الملتحقين تغير على نحو كيفي بعد قرابة عامين من القتال، نتيجة منحهم أجوراً مغرية ومختلف مزايا المحاربين القدامى.

وتكشف تصريحات مسؤولي وزارة الدفاع الروسية أن الحد الأدنى لرواتب المشاركين العاديين، من العسكريين والمقاتلين، في الحرب في أوكرانيا يبلغ 195 ألف روبل (ألفا دولار ومئة دولار وفقا لسعر الصرف الحالي). وفي موسكو، تصرف دفعة شهرية إضافية قدرها 50 ألف روبل (540 دولارا) لكل متعاقد من العاصمة. وعلاوة على ذلك، تصرف بلدية العاصمة مكافآت للمقاتلين مقابل تدمير معدات تابعة للجيش الأوكراني أو الاستيلاء عليها.

  
استمرار تجنيد المساجين

يجزم المدير العام لمركز الإعلام السياسي (شركة استشارات خاصة) في موسكو، أليكسي موخين، هو الآخر عن أن الأجور والامتيازات المغرية مثل الخروج من السجن والعفو التي تُمنَح للعسكريين والمتطوعين تغني عن ضرورة إجراء تعبئة جديدة.

ويقول موخين في حديث لـ"العربي الجديد": "لم تُعلَن تعبئة جديدة، لأنه يوجد عدد كافٍ من المتطوعين والراغبين في الالتحاق بالجيش ممن لا يرون في التجنيد فرصة لتحسين أوضاعهم المادية أو شراء شقة فحسب، بل بات الالتحاق بصفوف المقاتلين نوعاً من المصعد الاجتماعي مثل إمكانية الخروج من السجن وبدء صفحة جديدة على بياض".

الصورة
تحقيق روسيا2
يوفَد المساجين إلى المناطق الخطرة من الجبهة (Getty)

وعلى الرغم من اختفاء شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة عن المشهد الداخلي الروسي بعد واقعة مقتل مؤسسها، يفغيني بريغوجين، في حادثة طيران في نهاية أغسطس/آب الماضي، إلا أن الخبير القانوني والحقوقي، بافيل ماروشاك، يؤكد استمرار تجنيد السجناء بوتيرة عالية ضمن صفوف تشكيلات ذات صلة بوزارة الدفاع الروسية.

ويقول ماروشاك الذي سُجن لبضع سنوات في قضية ذات أبعاد سياسية ثم تفرغ للعمل الحقوقي، في حديث لـ"العربي الجديد": "تعززت مواقع شركة "باستيون" المقربة من وزارة الدفاع، ويمارس ممثلو إدارات السجون ضغوطاً على المساجين، ولا سيما أولئك الذين يتمتعون باللياقة البدنية لقبول العرض. وفي أغلب الأحيان، يقبل المحكوم عليهم بالسجن لفترات طويلة بالالتحاق. لذلك، أصبحت هناك أماكن شاغرة كثيرة في الإصلاحيات ومراكز الحبس".

وتعد "باستيون" كتيبة استطلاع هجومية يقودها شخص شهرته "موستانغ"، ويشرف على تشكيلات المتطوعين فيها العقيد المتقاعد، أندريه تروشيف، الملقب بـ"سيدوي" (الشايب) الذي ترأس هيئة أركان "فاغنر" حتى واقعة تمردها في نهاية يونيو/حزيران الماضي، ثم قبل بالعمل تحت مظلة وزارة الدفاع، بحسب المعلومات المتوافرة عبر مسح وسائل الإعلام الروسية. ويوفَد المساجين إلى المناطق الخطرة من الجبهة، كما يؤكد ماروشاك، مشيراً إلى أن مركز الحبس الاحتياطي في مدينة كورسك الواقعة جنوبيّ روسيا يستخدم كنقطة عبور إلى أوكرانيا.

ومع ذلك، يقر بأن فرص نجاة المساجين على الجبهة ليست كبيرة، مضيفا: "في العام الماضي، ذهب نحو 200 سجين من إصلاحية مقاطعة لينينغراد (تضم ضواحي العاصمة الشمالية الروسية سانت بطرسبورغ)، برفقة شركة "فاغنر"، ولكن عشرة منهم فقط عادوا أحياء ومن دون إصابات خطيرة. بعد ذلك، تراجع عدد الراغبين في الالتحاق بصفوف المقاتلين، ولكن  البعض لا يزالون يذهبون، لأنهم لا يجدون مخرجا آخر لتجنب قضاء عقدين آخرين خلف القضبان".

ورغم أن روسيا لا تكشف رسميا عن عدد المساجين المشاركين في أعمال القتال في أوكرانيا، إلا أن بيانات الهيئة الفدرالية لتنفيذ العقوبات تكشف أن مؤسساتها ضمت نحو 433 ألف سجين في مطلع العام الحالي، بتراجع نحو 33 ألفا عن بداية العام الماضي.

دوافع معنوية؟

تشير تقديرات مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام (حكومي) إلى أن ما يسمى "حزب الحرب" الذي كان يمثله بريغوجين ووزير الدفاع الأسبق لـ"جمهورية دونيتسك الشعبية" المعلنة من طرف واحد المعتقل حاليا إيغور غيركين، وشهرته "ستريلكوف"، تبلغ نسبة أنصاره اليوم ما بين 10 و15 في المائة فقط، بينما لا يطالب أغلب الروس بالسيطرة على كييف أو  أوديسا ولا يستمتعون بالمعارك، وفق المركز ذاته.

لكن كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية أندريه أندرييف يعتقد بأن دوافع الملتحقين بصفوف القتال في أوكرانيا لا تقتصر على تلك المادية، بل هناك من يرون في ذلك توظيفا لخبراتهم القتالية والعسكرية السابقة واستجابة لمشاعر الوطنية.

ويقول أندرييف، في حديث لـ"العربي الجديد": "البشر مختلفون، وهناك من يتوخون الحذر حيال الجيش والحرب ويخافون من الالتزام الصارم المطلوب في الخدمة العسكرية، بينما سبق لآخرين أن اكتسبوا خبرة قتالية في حروب أخرى، مثل الحربين الشيشانيتين، ويتمتعون بمهارات القتال".

وحول رؤيته لدوافع هؤلاء للالتحاق بصفوف المقاتلين في أوكرانيا، يضيف أن "المدن الصغيرة تتسم بشح الموارد المالية وفرص العمل، فيحسنون أوضاعهم المادية ويكتسبون لحياتهم معنى جديدا وهدفا ساميا متمثلا في الوطنية ومحاربة النازية، فهناك كثيرون يجمعون بين دوافع معنوية ومادية"، وفق اعتقاده.

إلا أن أغلبية الذكور الروس ممن تحدث إليهم معد التحقيق وفضلوا عدم ذكر أسمائهم، أعربوا عن رفضهم الذهاب إلى الجبهة مهما كانت المغريات واستعدادهم للجوء إلى حيل مثل السفر أو الإقامة بعنوان مغاير لمحل الإقامة الدائمة لتجنب تسلم إخطارات الاستدعاء.

ومع ذلك، أعرب رجلان في نهاية العقد الثالث من عمرهما عن استعدادهما للذهاب إلى الجبهة، إذ قال أحدهما الذي سبق له أداء الخدمة بقوات وزارة الداخلية الروسية لـ"العربي الجديد": "قاتل جدي الراحل ضد النازيين الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، فماذا سأقول له عندما ألتقيه؟ لذلك سأذهب إلى الجبهة إذا تم استدعائي".

وقال الآخر: "شروط تعبئة العام الماضي لم تكن تنطبق علي من جهة العمر وخبرة أداء الخدمة العسكرية، ولكنني كنت مستعدا للذهاب في حال تم استدعائي".