جبل القلعة... حارس عمّون وفيلادلفيا وعمّان

جبل القلعة... حارس عمّون وفيلادلفيا وعمّان

عمّان

محمد هديب

محمد هديب
محمد هديب
كاتب وصحافي أردني
27 ديسمبر 2019
+ الخط -
ما زالت الحافلات وسيلة السياح لبلوغ جبل القلعة، شرق العاصمة الأردنية عمّان، حيث هناك سيكونون على جبل يحرس تاريخ المدينة التي تقوم على سبعة جبال، ويطل على أكبر مدرج روماني في الأردن، لكنه مقطوع عنه، بعد أن كان موصولاً في القديم من الزمان بدَرج.

يتردد الحديث دائماً عن الدَرج، الذي يقال إنه تهدم بفعل زلزال ضرب المنطقة عام 749، وإنه عاد بوصفه الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الوادي الأخضر ذي الينابيع والبساتين، والجبل، حتى ما قبل مئة عام، إذ اندثر بفعل التوسع العمراني وتحول الوادي الذي يفصل جبل القلعة عن المدرج الروماني إلى الشارع الرئيسي لوسط العاصمة، بما فيه من ساحات الحافلات العمومية التي تنقل الناس في العاصمة، وتستقبل وتودع القادمين من أرجاء الأردن.

هناك من يقترح إقامة تلفريك، وهناك كلام جرى تداوله عن قطار خفيف، لكنّ الدرج أقرب للتخيل والإمكانيات، وينسجم مع مشاريع الأدراج التي تحتفي بها عمّان، وتتزين بها، وتروج لها سياحياً بوصفها معلماً معمارياً خاصاً.

يبقى جبل القلعة مثل شيخ حكيم ذي هيبة بين بقية الجبال. إنه هنا لا يستفرد بالتاريخ، بل يشكل بؤرته، منذ أن كانت ربة عمون عاصمة العمونيين قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة.


ولرمزيته يستضيف في متحفه منذ 1951 تمثيلات تعبر عن جغرافيا وتاريخ الأردن، منذ العصر الحجري القديم المبكر، والقديم المتوسط، والقديم المتأخر، وما بعد العصر الحجري القديم المتأخر منذ أكثر من عشرين ألف سنة.

المتحف الذي يختتم طريق السائح، يلخص تاريخ الأردن الحضاري، ثم رجوعاً إلى ما قبل التاريخ بمئات آلاف السنين، حيث توثق بدايات الطريق البشرية من الصيد إلى الاستيطان، إلى مراحل متأخرة حين تشكلت أولى القرى الزراعية، في أريحا.

القصر الأموي في القلعة (العربي الجديد) 

هنا يعرض أقدم نصب عبده الإنسان وجد في أريحا، ويعود للعصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري.

مروراً بأقدم تركات المجتمعات المستقرة، كالتماثيل الجصية من موقع عين غزال القريب، التي ينظر إليها بتقدير عال محلياً ودولياً. إنها من أقدم ما أنجزته البشرية من تماثيل، وتعود إلى ثمانية آلاف عام.

شارع الأعمدة محور المنشآت الأموية في القلعة (العربي الجديد) 

لكن آلهة آخرين سيتوافرون بين جنبات المتحف، إذ يصبح التاريخ متحفياً صفحات تقلب دون صراعات ودون دماء.
قبل دخول المتحف لا يمكن تجاهل قبضة الإله هرقل العملاق. وفي الداخل على بعد أمتار من النصب الإلهي المنتمي للعصر الحجري الحديث 9000 - 4500 قبل الميلاد، هناك تايكي، إلهة الحظ وحارسة فيلادلفيا (عمّان) ابنة زيوس كبير الآلهة لدى الرومان، يعود للفترة ما بين القرنين الثاني والثالث ميلادي.

وعلى مقربة، رأس الإله حدد، من الحجر الكلسي، وجد في خربة التنور (شمال الطفيلة)، ويرجع للفترة النبطية في القرن الميلادي الأول.

وثمة رأس لامرأة من الحجر البازلتي عثر عليه في البتراء، وتبدو ملكية - إلهية الطلة، بيد أن هويتها مجهولة، وسرها دفين، قد تعرفه تايكي أو حدد أو هرقل، وقد يسرها أن لا أحد يعرفها.

أما حورية الماء فلا تتدخل في ما لا يعنيها. إن لها سرديتها الحية منذ كان سبيل الحوريات الروماني يغسلنا بالماء والأساطير. اكتشفت الحورية عام 1993 وصعد بها من السبيل المحاط بزحمة البشر وسط عمّان إلى حيث الجبل، يحيطها بالرعاية.

آثار الكنيسة البيزنطية (العربي الجديد)

يشكل جبل القلعة محوراً حيوياً في تاريخ الحضارات المتلاحقة. كل الإمبراطوريات استقرت هنا وجعلت المكان يشرف على طريق القوافل التجارية إلى دمشق، ويشرف على المدينة التي ستبدأ من ربة عمون، ثم تصبح فيلادلفيا، ثم عمّان.

جميع هذه التسميات يتعرف إليها الإنسان من خلال معاينته الآثار. هذه بقايا قصر عموني اكتشفت مصادفة بفعل المطر.

هذا كهف استخدم للدفن في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد. وتوجد العديد من المدافن المماثلة لهذه المدافن في مناطق عمّان، وكان من الشائع استخدام هذه الكهوف لأغراض مختلفة من العديد من الحضارات عبر العصور، وأعيد استخدام حجارة هذا القبر في بناء مجمع دار الإمارة الأموية في القلعة.

الحجارة التي استخدمها الأمويون كانت في خدمة اسم عمّان الذي اختاره سكان المنطقة استسهالاً على ما يبدو للفظ، بدلاً من ربة عمون أو ربة بني عمون. وبالطبع لم يقبل المنتصر العربي أن يترك للمهزوم تسمية المكان فيلادلفيا، فهذا العصر الجديد هو الوارث للأرض وهو الذي يسميها، وعلى  بطليموس الثاني فيلادلفيوس (285-247 قبل الميلاد) أن يعود لكتاب التاريخ معززاً مكرماً.

ثم ستتوالى الحقب الإسلامية بعد الأمويين، ولن يعود لعمّان وجبلها القلعة ذلك الحضور الكبير الذي سجله التاريخ بوصف عمّان حاضرة عمونية ويونانية ورومانية، وأموية، حتى نهضتها الجديدة مع نهايات القرن التاسع عشر، لتبدأ سيرتها عاصمة تكبر على مهل.

حضارات عديدة تركت معالمها هنا (العربي الجديد) 

على طريق منبسط وساحات سهلة تبدأ اللافتات التي تلخص سير ممالك وملوك وآلهة وشعوب. تنوعت طبقاتها ما بين الساكنة على السفح هبوطاً نحو الأسفل، وبين الجنود والموظفين والكهنة والعمال المهرة، والعبيد الذين تتوزع مهامهم من أسوار الحراسة حتى خدمة المنشآت الضخمة.

دائماً هنا أثر ضخم يدل على الملوك. معبد هرقل 161 - 162 ميلادية، بقيت بضعة أعمدة تشير إليه، يصعد إليه بسبع درجات، وأمامه تمثال هرقل، الذي تبقى منه أجزاء، منها اليد الضخمة التي كانت لتمثال ارتفاعه 13 متراً، ما يجعله واحداً من أضخم التماثيل التي عرفت في العصر اليوناني الروماني.

هناك الكنيسة البيزنطية، وتتبع هذه الكنيسة التي تعود إلى القرن السادس ميلادي مخطط البازيليكا الذي يتألف من صحن وجناحين، وفي نهاية الصحن من الناحية الشرقية توجد حنية المذبح التي كان يتقدمها حاجز الهيكل. رصف الصحن بمكعبات فسيفسائية وهي الآن مسيجة لحمايتها، وتظهر قرب حنية المذبح بقايا كتابة يونانية تقول "رصفت بالفسيفساء بحماسة وعمل".

متحف الآثار أنشئ عام 1951 (العربي الجديد) 

أما الأسرجة البرونزية، فلا تشتعل إلا في خيال السائح. إنها كانت في العصر البيزنطي تضيء ليل الجبل، حيث كان الناس على علاقة جيدة بالحدس والبصيرة ومطالعة النجوم وقمرهم الوحيد.

تلاصق الكنيسة معصرة للنبيذ مستطيلة، غالبية مساحتها مخصصة للعنب الذي يداس بأقدام النساء، وفي الطرف الأقصى حوض ينصب فيه العصير، ومنه إلى أنابيب موصولة بالكنيسة، كما يخبرنا الدليل السياحي.

المنشآت الأموية على الجبل تمثل جميع عناصر المدينة الإسلامية المتكاملة، مشتملة على المسجد، والسوق، والحمّام، والقصر بما في ذلك قاعة الاستقبال، وغرفة العرش، بالإضافة إلى العديد من الوحدات السكنية التي ما زالت ماثلة في الجبل.

بقايا أعمدة معبد هرقل (العربي الجديد)

أقيم القصر على أنقاض الساحة المقدسة لمعبد روماني. أما باقي المنشآت فقد امتدت فوق مساحة واسعة. وكان جزء منها مخصصاً للوالي، وأسرته، وحاشيته، وموظفيه، وحرسه. أما عامة المواطنين فكانوا يقطنون في الجزء السفلي من المدينة، وهو ما يعرف اليوم بوسط عمّان.

أصبحت عمّان إبان الخلافة الأموية عاصمة مقاطعة البلقاء الواسعة.

هناك شارع الأعمدة المبلط الذي يشكل محوراً يمتد من البوابة الكبرى إلى القصر تحيطه الأعمدة. أقيمت عند بدايته ونهايته بوابة للتحكم في دخول الزائرين، وعلى جانبي الشارع هناك مداخل تؤدي إلى وحدات سكنية.

أضخم خزان مائي ضمن المنشآت الأموية (العربي الجديد)

وثمة قناة مغطاة بشكل جزئي تمتد وسط الشارع، لتصريف مياه الأمطار وجمعها في خزانات تحت سطح الأرض. هذه الخزانات جزء من النظام المائي في العصر الأموي، والذي كان يمد دار الإمارة بالماء. في الجبل 27 خزاناً، أكبرها ما يسمى "البركة الأموية" التي تتغذى من مياه الأمطار وتتسع لـ1370 متراً مكعباً.

المسجد وقصر الحاكم أكبر المعالم الماثلة. بعيداً عنهما فرن لإنتاج الملاط الكلسي. أما قرب مقر الحاكم فهناك الحمام، وله مدخل خاص للحاكم وعائلته، وهو على هيئته الحالية ليس بشموخ حمام الصراح في قصر الحلابات (25 كيلومتراً شمال شرق مدينة الزرقاء) المكتملة عمارته.

حورية الماء جلبت للمتحف من سبيل الحوريات وسط عمّان (العربي الجديد)

لكن عموماً، فإن حمامات الأمويين كانت متشابهة في تصاميمها المقببة وإمدادات الماء الساخن، وتوفير الرفاهية من قاعات الاستقبال، وغرف تغيير الملابس، وبعضها كانت تزينه الرسوم الباذخة، ونموذجها الأرفع في حمّام قصير عمرة الأموي.

 تقع شمال المسجد رحبة تكتنفها من الشرق والغرب مجموعة من 11 غرفة صغيرة أو دكاكين كانت تشكل السوق، ومنها تمتد ثلاثة دروب أو سكك تؤدي إلى بوابات فتحت في الأسوار المحيطة بالقلعة.

ما زالت الاكتشافات وأشغال الترميم تتوالى في منطقة الجبل. ومن عاصر القلعة خلال العقود الأخيرة يلحظ أن آثارها المستخرجة والمرممة كانت أصغر مساحة بكثير مما هي الآن.

أما شهرة القلعة عالمياً، فإنها لا تقتصر على التاريخ، بل تستقطب نجوماً وجماهير يشعلون ليلها بحفلات موسيقية وغنائية، ثم يغادرون وتغادر الأضواء الملونة، ويتركون القلعة لأسرارها الغارقة في التراب وفي السماء.

دلالات

ذات صلة

الصورة
مئات يترقبون انتشال المساعدات على شاطئ بحر غزة (محمد الحجار)

مجتمع

يواصل الفلسطينيون في قطاع غزة ملاحقة المساعدات القليلة التي تصل إلى القطاع، وبعد أن كانوا يلاحقون الشاحنات، أصبحوا أيضاً يترقبون ما يصل عبر الإنزال الجوي.
الصورة
شلباية: نادال قدوتي في التنس وتعلمت كثيراً من أنس جابر

رياضة

حلّ موهبة التنس الأردنية عبد الله شلباية ضيفاً، في حوار حصري مع "العربي الجديد"، من أجل الحديث عن قدوته في عالم الكرة الصفراء، وأهدافه المستقبلية.

الصورة

رياضة

أطلقت الجماهير الأردنية العنان لاحتفالاتها في شوارع العاصمة عمان، الثلاثاء، بعد الفوز التاريخي لـ"النشامى" على المنتخب الكوري الجنوبي وتأهله إلى نهائي كأس آسيا.

الصورة

سياسة

زعم رؤساء بلدات ومستوطنات إسرائيلية في منطقة غور الأردن، أنّ الأردنيين يطلقون النار كل ليلة باتجاه إسرائيل، بحسب ما أوردته إذاعة "كان رشيت بيت" العبرية

المساهمون