عن سينما أصغر فرهادي: لغة الكاميرا والحوار

30 ابريل 2018
أصغر فرهادي (الموقع الإلكتروني لمهرجان "كانّ")
+ الخط -
يُشكِّل السينمائي الإيراني أصغر فرهادي (1972) حالة خاصّة. لديه مكانة في بلده، تتيح له خروجًا آمنًا إلى غربٍ يمارس ضغوطًا على بلده نفسه، في السياسة والاقتصاد والمال وغيرها. يُحقِّق أفلامًا إيرانية، تمتلك حساسية بصرية مثيرة لمتعة المُشاهدة وحيوية النقاش؛ وفي الوقت نفسه، يخوض تجربة سينمائية غربية، فيصنع صورة بهيّة عن المعنى الأصيل للفنّ السابع. لكنه، بصنعه نتاجًا غربيًا، يحافظ على ارتباط وثيق، إنتاجيًا على الأقلّ، بإيران. 

الدافع إلى استعادة شيء من سيرته السينمائية منبثقٌ من اختيار فيلمه الأخير، "الجميع يعلمون" (2018)، لافتتاح الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي. الفيلم مُنتظر، كالأفلام السابقة لفرهادي. لكنه منتظر أيضًا لكون إنتاجه إسبانيًا، ولأنه يروي حكاية إسبانية مع ممثلين إسبان، في تجربة سينمائية غربية جديدة، بعد تجربتين سابقتين يتداخل فيهما الغربي بالإيرانيّ، لمخرج غير متردِّد عن خوض تجارب مختلفة في اشتغالاته.

ينتمي أصغر فرهادي إلى جيل سينمائي لاحق لمؤسّسين ومُجدّدين وفاعلين. يختبر إنتاجًا غربيًا بحتًا كعباس كيارستامي (1940 ـ 2016)، لكنه ـ بعودته إلى فضائه الإيراني ـ يُجيد التنقيب في مشاغل "تُعكِّر" يوميات أفراد، أو في مآزق تخنق بيئة وناسها، أو في تفاصيل تعكس نمط تفكير واشتغال. في الحالتين، يمتلك براعةً في مراقبة حالة، والإحساس بانفعال، والتفاعل مع نبضٍ. براعة مترجَمة إلى صُوَر متتالية ومترابطة بخيطٍ درامي يسرد حكاية كمن يَعِشْ مسالكها وأمزجتها. يخترق الظاهر كي يتوه ـ جماليًا وإنسانيًا ـ في المبطّن والمخفيّ والمحرّم، فيقول أشياء هذا كلّه بمواربة تضع المُشَاهد في الاختلاط الرائع بين الواقع والمتخيّل، أو بين الحقائق والسرديات الحكائية التي توحي بأنها أغرب من الغرائبية، أو أكثر ميلاً إلى فانتازيات، يتبيّن سريعًا مدى بساطتها وواقعيتها.

لن يكون مغايرًا للواقع القول إن "بخصوص إيلّي" (2009) يُعتَبر لحظة تحوّل في سياق اشتغالاته السينمائية (له نتاج تلفزيوني قليل للغاية أيضًا). حكاية عادية للغاية، عن أصدقاء وأزواج عاديين، يُمضون إجازة في مكانٍ عادي، ويتبادلون أحاديث عادية عن يوميات عادية. غير أن هذا العاديّ ينفتح على كمّ هائل من المعلّق والملتبس، في العلاقات والمشاعر والوقائع، مع اختفاء إيلّي (تاراني عليدوستي، 1984)، المُدرِّسة المدعوَّة إلى تلك الإجازة بهدف ترتيب لقاء لها بأحمد (شهاب حسيني، 1974)، العائد حديثًا من ألمانيا. اختفاءٌ يكون انقلابًا جذريًا في السياق الدرامي، كما في صناعة الصورة، إذْ تنتقل الكاميرا من نقل بسيط لمشاغل هؤلاء وأجوائهم العادية إلى تلصِّص حادّ يخترق عوالمهم والمخبّأ فيهم، كي يكشف شيئًا من ارتباك وقلق والتباس وتناقضات.

لحظة التحوّل التي يصنعها "بخصوص إيلّي" تثير رغبة كثيرين في متابعة نتاجاته اللاحقة، التي تؤكّد ـ فيلمًا تلو آخر ـ جمالية تلك المعادلة المعتَمدة في الغالبية الساحقة من النتاج السينمائي الإيراني: البساطة (قصة ومعالجة وتوليفًا وتصويرًا وتمثيلاً، إلخ.) تصنع جمالاً. أي أنّ القصص المتناثرة في اليوميات العادية للناس أبرع في الكشف والتعرية والبوح والابتكار من أي شيء آخر. أي أن الفرد، بصفته كائنًا بشريًا، قادرٌ على أن يكون أجمل مرآة تنعكس عليها بيئات وتفاصيل.

يتّضح هذا، أكثر فأكثر، في "انفصال" (2011): شابان متزوّجان ولديهما ابنة، ويُقيم معهم والد الزوج المُصاب بمرض "ألزهايمر". تدور الغالبية الساحقة من أحداث النص السينمائي هذا وتفاصيله وحكاياته داخل منزل عائلي. الاعتماد على وفرة الكلام متحرِّرٌ من كلّ ثرثرة أو ثقل أو لامعنى. وفرة تقول أشياء كثيرة، وتعكس انفعالات ومخاوف وتساؤلات، يُضاف إليها سحر أدائيّ، خصوصًا مع بايمان ماضي (1971) ـ المتعاون معه في "بخصوص إيلّي" أيضًا ـ وليلى حاتمي (1972)، في مشهديات يظهران فيها في أصفى حضور سينمائي، وفي أبهى انعكاسٍ لحجم الاضطرابات الذاتية والعلاقات المرتبكة. أحيانًا، يبدو حضورهما معًا كمبارزة تجعلهما يخرجان من فعل الأداء التمثيلي إلى ما هو أرقى: حساسية إنسانية في مواجهة مخاوف معلّقة.

هذان فيلمان يبقيان الأجمل في تبيان لغة الجسد (الحركة والتعبير والانفعال والتواصل والانغلاق، إلخ.) في مواجهة الكاميرا، أو في مواجهة الذات والروح والأحاسيس؛ وفي تبيان معنى أن تكون الكتابة (النص والسيناريو والحوار والتقطيع والمعالجة) أبسط من كلّ تعقيد، وأقدر على كشف بواطن وصراعات وغليان، بسلاسة محصّنة بعمق التساؤلات المطروحة والحكايات المروية. هذا ليس سهلاً. هذا لن يبقى أسير الفيلمين، وإنْ يختلف الفيلمان اللاحقان في مقاربته: "الماضي" (2013) و"البائع" (2016). في الأول، اختلاط جنسيات ممثليه وهوياتهم السينمائية عاملٌ مساعد على اختبار تجربة التنوّع في البنيان الدرامي والجمالي والحكائي لنصّ يحاول قراءة بعض العلاقة القائمة بين ثقافتين وبيئتين ومنطقين. في الثاني، يعود السينمائي إلى مناخه الإيراني، كي يُكمِل مسارًا سينمائيًا عن العلاقات المعطّلة والارتباكات الملتبسة.

هذا كلّه بانتظار "الجميع يعلمون"، المنتقل به إلى عالم سينمائي ـ إنتاجًا وكتابة وتمثيلا واشتغالاً ـ مختلف تمامًا عن اشتغالاته كلّها.
المساهمون