أزمة النشر العربي: يد مقطوعة في وجه الكاتب

أزمة النشر العربي: يد مقطوعة في وجه الكاتب

18 اغسطس 2015
"تشريد ذاكرة المستقبل"، هناء مال الله (العراق، 2009)
+ الخط -
لا تنفك معطيات الواقع العربي، ثقافياً وسياسياً، تلقي بظلالها على صناعة النشر، لتخلّف حالة من الترهل والإعياء؛ فبات من النادر أن يتبنّى ناشر مخطوطاً مهما بلغت قيمته الفكرية. كما بات لاعتبارات، من قبيل الصداقة والربح المادي، الأولوية على حساب سويّة النص.

يعلّق الروائي والناشر الأردني إلياس فركوح، في حديث إلى "العربي الجديد"، "ثمة مبالغة في تصوير علاقة التوتر بين الكاتب والناشر، والتي تقوم أصلاً على التكاملية والربحية للطرفين"، منوّهاً: "إن حدث وأخلّ ناشر ما بفكرة النشر أو بأحد بنود العقد فلا يعني هذا خللاً في المنظومة كلها".

ولا ينفي صاحب دار "أزمنة" بأن هناك تراجعاً ملموساً؛ "على سبيل المثال كنا في الثمانينيات نطبع ثلاث آلاف نسخة من الكِتاب، بيد أننا بالكاد الآن نطبع ألفاً، ولا تنفد بل تتكدّس في المستودعات، وهو ما يعني أن الناشر ينفق من جيبه على أجرة المستودعات".

يتساءل فركوح: "هل من العدل أن يصرف الناشر على كل هذا الدفق من الكتابات من رأس ماله الخاص، والذي في العادة يكون صغيراً، وفي ظل تراجع السوق وقلّة الإقبال على الكِتاب وخمول الحركة الشرائية في المعارض؟".

أما الشاعر الفلسطيني زكريا محمد فيؤكد على "غياب معايير للنشر في العالم العربي"، ويضيف لـ"العربي الجديد": "دُور النشر لدينا تُصدر مخطوطات لا كتباً، أي تنشر الكِتاب كما يصلها من الكاتب ولا تحرّره، ولعل الأفضل منها يُجري تدقيقاً لغوياً فقط".

يسوق محمد تجربته مع دار نشر مصرية، قائلاً "حين دققّتُ أحد كتبي وجدت أن الأخطاء زادت فيه ولم تقلّ. ولم يعاودوا الاتصال بي. كأن الكتاب ليس لي". يردف "بعد سنوات اتصل بي مستشار النشر؛ كي أنشر لديه مجدداً. لم أردّ. فهو لم يكلّف نفسه عناء إخباري بما حصل لكتابي السابق: هل بيعت نسخه؟ هل أعاد طباعته؟". في العامين الأخيرين نشر محمد عدداً من كتبه في دار صغيرة لأحد أصدقائه، مبيناً أن المنطلق كان "إيمان الناشر بأهمية الكتب، لا التفاته للربح؛ ذلك أن خسارته مؤكدة".

للكاتب والمترجم المصري أحمد الشافعي تجربة تعود لخمسة عشر عاماً مضت، حين لم توافق أي دار نشر مصرية خاصة على مخطوطه إلا بمقابل مادي، وهو ما لم يكن قادراً عليه ويراه ينطوي على إهانة، بحسبه، ما جعله يتوجّه للنشر الحكومي "برغم المحاذير الرقابية".

حدث ذلك قبل أن يهتدي لـ "الكتب خان" لصديقته كرم اليوسف، فكان أن نشر لديها أربعة كُتب. يقول "كنت أبحث عن ناشر حر لا يفرض قيوداً على الإبداع، واعٍ لا يسعى وراء الربح، مثقف يصغي ويناقش ويتحمس، طموح يُقبل على المغامرة، أنيق لا يبخل على الكتاب في جميع مراحله، وهو ما وجدته".

الشاعر الأردني حكمت النوايسة يوضّح أن معايير النشر في وزارات الثقافة (النشر المدعوم) هي كالتالي: "لا بد أن يكون بين يديّ مقيّم الكِتاب سلسلة من الأسئلة يجيب عنها تقريره، منها ما يتعلق بالجوانب الأكاديمية والفنية، ومنها ما يتعلق بأهمية الموضوع وطرافته أو جدّته".

ويكمل "ثم يُصار لإحالة المخطوط للجنة تناقش الأمر في اجتماع موسّع، ويكون الرأي جماعياً؛ لتنتفي أي شبهة شخصنة في الأمر، بل على المقيّم ألاّ يعرف لمن المخطوط من الأساس". وحول كساد الكتاب المدعوم والمنشور من قبل الجهات الرسمية، يقول "يعود ذلك إلى السلوكيات البيروقراطية، وانتهاء مهمة الموظف بالتوقيع على الكِتاب، كما أن ليس هنالك أقسام مختصة بالتسويق والترويج، بل كثيراً ما يكون المسؤول الإعلامي لا هو بمثقفٍ وليس إعلامياً أصلاً".

الكاتبة الفلسطينية صونيا خضر لديها ثلاث تجارب نشر، في فلسطين والأردن والجزائر. تقول "لاحظت البون الشاسع بين معايير النشر في المغرب العربي وبلاد الشام. الناشر في الجزائر أكثر حرصاً على التدقيق والتحرير، بل يحمل مسؤولية ذلك بشكل كامل ودون نظير مادي".

تضيف "في مقابل أني اضطررت لإتلاف الطبعة الأولى من ديواني، والتي كانت على نفقتي الخاصة، وإعادة ذلك مجدداً على نفقتي؛ بسبب لا مسؤولية دار النشر في فلسطين". تنعت خضر حركة النشر والتوزيع بـ "موضة الومضة"؛ إذ المسألة "نشر، فحفل توقيع، فمقال أو اثنين ثم ينتهي الأمر، وكأن للمنتَج مدة صلاحية قصيرة ومن دون مواد حافظة".

"صناعة الكتاب، على قلة إنتاجنا وضعف قدراتنا التوزيعية له، لم تتطور فعلياً"، وفقاً للشاعر الأردني ومؤسس مبادرة "أزبكية عمّان لبيع الكتب" غازي الذيبة. يُشخّص الأسباب: "عدم تعامل التشريعات والقوانين مع النشر كصناعة، إلى جانب الغموض المؤسسي حيال النشر برغم تسجيل الكِتاب في مؤسسات الصناعة والتجارة ومديريات المكتبات"، مضيفاً "ما تزال المنطقة تعيش في مرحلة الأحكام العُرفية، لذا ما يزال لدينا منع لكتب وأخرى لا يُسمح بترويجها".

بدوره، يقول الشاعر السوري المغيرة الهويدي بأن دور النشر في سورية "لم تسلم من الحرب"، وهو ما انعكس على التواصل بين الكاتب ودور النشر، وعلى تسويق الكِتاب داخل البلاد وخارجها، عدا عن عجز كثير من دور النشر السورية عن المشاركة في المعارض.

في ظل ظروف كالآنفة يقول الهويدي بأنه اختار دار نشر لبنانية مؤخراً؛ "لسهولة التواصل مع الدار، وبراعتها في التسويق، وتوفيرها نسخة إلكترونية، إلى جانب حرية النشر في لبنان وغياب الرقيب وضمان حقوق الكاتب مالياً وقانونياً"، مستدركاً "بيد أن المشكلة هي ارتفاع التكلفة المادية مقارنة بتلك التي كانت في سورية".

يقول القاص الأردني نادر الرنتيسي بأن هناك "أزمة ثقة مزمنة بين الكاتب والناشر"، موضحاً "أخال بأنها تبدأ منذ المصافحة، حين يمدّ الناشر يداً مقطوعة، فيستهل علاقته مع الكاتب بالشكوى من ضيق ذات اليد، ما يعني أن على الأخير تحمّل نفقات النشر". الحالة الآنفة مشتركة لدى الناشرين العرب، وفقاً للرنتيسي: "يقبض الناشر سلفاً تكاليف طبع الكِتاب ثم يتحدث للكاتب عن بضاعة كاسدة ينتقل بها من معرض لآخر، دون أي شفافية، وهكذا لا ضير لو قبض ثمن الكِتاب مرتين".

يرى الرنتيسي بأن لا أفق للخلاص من الأزمة "طالما بقيت المجتمعات العربية تفرّخ شاعراً وروائياً وقاصّاً كل يوم، يوازي هذه الولادة موت يومي لقارئ ومتذوق وناقد. هؤلاء هم المعضلة؛ إذ يجهّزون الشيك بألف دولار مع حبر أسود موزع على مائة صفحة من القطع المتوسط، مسبغين على الناشر صفة بائع البقالة".

وكان الشاعر فريد إبراهيم قد تقدّم بمخطوط ديوان لوزارة الثقافة المصرية، بيد أن أحداً لم يجبه؛ "لأن الأمر يتعلق بشفاعات الأصدقاء والمعارف، وليس احتكاماً لمعايير النشر"، غير أنه لم يأبه بذلك، بل تقدّم بالمخطوط لمسابقة على مستوى مصر أقامتها دار التحرير للطبع والنشر "ليفوز بالمركز الأول مناصفة مع ديوان آخر، ولتقوم دار الكتاب الصوفي بطبعه على نفقتها أيضاً".

يضيف بأن دور النشر الخاصة في مصر تعمل وفقاً لآليات عدة منها أن يتنازل الكاتب عن حقوقه "مثلما حدث معي في نشر مجلّدين عن المختصر من تفسير الشعراوي، وقد وافقت كي يخرج المؤلَّف للنور بدلاً من بقائه في أدراج مكتبي"، مكملاً "أو أن تجعل الدار التكلفة مناصفة مع الكاتب، لا سيما إن كان من الجيل الشاب، بيد أن دار النشر تحدد التكلفة من دون الاحتكام لمعايير واضحة، معطية الكاتب بضع نسخ من مؤلّفه فقط".

أما الشاعر الفلسطيني عبد السلام العطاري فيقول "في بداية حركة التواصل الإلكتروني وتحديداً مطلع العام 2000 وظهور الاتحادات والروابط الأدبية الإلكترونية، كان ثمة هاجس بأن الكتاب الورقي سيتراجع، بيد أن ذلك لم يحصل".

ويرى أن خللاً جاء مع النشر الإلكتروني الذي يصفه بأنه "فوضوي ويعجّ بالمديح المجاني والنشر بلا رقيب أو حسيب"، وهو ما أدى بدوره إلى فوضى النشر الورقي وتزايد دور النشر التي نقلت النتاج الهزيل من الفضاء الإلكتروني إلى حيّز الورق، وفقاً له. يؤمن العطاري بأن "حركة النشر لا تعني أبداً أن حركة التأليف بخير".

المساهمون