فردريكو فيلّيني.. حلم القرصان

فردريكو فيلّيني.. حلم القرصان

31 أكتوبر 2014
تصوير: ألبرتو روفيني
+ الخط -

سبعون ألف شخص مشوا في جنازة فيلّيني في مثل هذا اليوم من عام 1993. طلبت الممثلة الإيطالية الحسناء جولييت ماسينا، زوجته وملهمته، من أشهر عازفي الساكسفون، ماورو ماور، أن يعزف مقطوعة "ملاك مفاجئ" أثناء وداع فردريكو الأخير في "أستوديو 5" في روما، مكانه المفضل، الذي أقيمت جنازته فيه.

كانت ماسينا حريصة على أن تشبه جنازته روح أفلامه: مزيجاً من الواقع والغرابة؛ يقف المعزّون فيها كمتفرجين سذّج أمام حافلة الموت التي أقلّته، مثلما كان يتصرف هو في أفلامه كمتفرّج ساذج على عربة الحياة. ذلك أن أفلامه لم تكن ببعيدة عن حياته الشخصية، بل إنها مقتبسة منها في بعض الأحيان.

ألم يقل في إحدى المقابلات معه "إن كنت سأصنع فيلماً حول حياة شخص ما، فهي في المحصلة ستكون حياتي؟". ومن ينسى أيضاً حين وقفت جولييت لتلعب دور نفسها في فيلم "جولييتا والأرواح" الذي روى فيلّيني فيه قصة زواجهما؟

لا يعمل فيلّيني على واقعه فحسب، بل يصنع من أحلامه عالماً من المشاهد التي لن ينساها مشاهد أفلامه أبداً. أمر يؤكده الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا في شهادةٍ حول فيّليني بقوله "إن هذا المخرج يصور أحلامه". من هنا، برز كواحدٍ من الذين استطاعوا تجسيد مفهوم "سينما المؤلّف" ببراعة.

أحبّه النقاد وكرهوه في الوقت نفسه. رأوا فيه فناناً متبصّراً وصاحب مخيلة استثنئاية، وكذلك اعتبروه مصاباً بتضخم "الإيغو" ومنغمساً في ذاته. حالة ليست مستبعدة عن فيلّيني، المثير للجدل. فبالرغم من أن جودة أفلامه أمر كان موضع تساؤل أول ظهورها، لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر الأثر الذي تركه بتمرده وغرابته وتنوعه على صناعة السينما. تلك المعايير التي اعتبرته غير مقبول في بداياته، جعلت منه، لاحقاً، مدرسة بحد ذاتها، يحاول فيها المخرج طيلة الوقت فهم الشخصيات التي يقدمها.

إنه المخرج المتفرج، في آن. عادات المتفرج هذه بدأت منذ الطفولة. كان صاحب فيلم "المهرجون" يتردد كثيراً على السيرك ليراقب المهرجين وألعاب السحرة. كان موهوباً أيضاً في الرسم، وصناعة الدمى. يذكر في سيرته الذاتية "أنا فيلّيني" (نقلها إلى العربية عارف حديفة):

"كنت في التاسعة عندما بدأت أصنع الدُمى وأقيم العروض. كنت أرسم دُمى مسرحي قبل أن أصنعها من الورق المقوَّى والصلصال. كان يعيش على الجانب الآخر من الشارع نحَّات، ولما رأى دُماي شجعني. قال إنني موهوب. وكان هذا تشجيعاً. ليس هناك أثمن من التشجيع المبكر، خصوصاً عندما لا يكون استحساناً عاماً، بل على أمر معين. علَّمني ذلك النحَّات كيف أستخدم الجصَّ للرؤوس. أقمت عروضاً وأدَّيت كل الأدوار، وهكذا تعودت تأدية كل الأدوار وطورت، في اعتقادي، الأسلوب الذي استخدمته في ما بعد كمخرج لأوضّح للممثلين كيف أرى كل شخصية، وبالطبع كنت أنا الكاتب أيضاً".

حين اقتُرحت عليه الكتابة، في الفترة التي كان يعمل فيها صحافياً في روما، كتب سيناريو "حلم القرصان" الكوميدي. ربما كان فيليني الذي كتب هذا السيناريو وهو بالكاد يدخل العشرين من عمر، ليظل في عالم الكوميديا لولا أنه، بعد ظهور ونهاية موسيلينّي، اكتشف مسخ كافكا وعنف فوكنر وواقعية غوغول وجمال السرد لدى شتايبنك. من هذه التجربة، انتقل ليتعرف إلى السينما الفرنسية التي كانت في أوجها تلك الأيام. أصدر، في تلك الفترة أيضاً، كتاباً صغيراً بعنوان "صديقي باسكولينو".

هذا الحس الساخر لم يفارقه أبداً. لقد نجا فيلّيني من كساد ما بعد الحرب بأن افتتح متجر "الوجه الضاحك" الذي كان يرسم سكتشات كاريكاتيرية للجنود الأميركان ويبيعها.

ظلّ فيلّيني بعيداً عن أن يكون مخرجاً حتى التقى بالمخرج الإيطالي روسليني الذي جعل منه مساعداً له. بعدها انطلق صانع "أضواء حفل المنوعات"، الذي أنجز فيلمه الأول عام 1951، في عالم الإخراج، ليسخر ويراقب ويؤلف كيفما شاء. هذا الفيلم الذي اعتبره النقاد فاشلاً، قدّم فيه فيلّيني درساً سينمائياً رغم أنه كان محاولته الأولى في الفن السابع. وهو الفيلم الذي نقله للعمل على شريطه الثاني "الشيخ الأبيض"، الذي أخرج بعده "المتسكعون"، شريطه الذي أوضح الملامح الأولى لهذا المخرج الشاب والمشاكس.

السياسة والجنس والحنين؛ ثالوث يشكّل أساس أي مدخل لأعمال فيلّيني. معارك كثيرة خاضها بسب هذه الخلطة. استفزاز المجتمع الإيطالي والسخرية من أخلاقياته كان أحد أهدافه أيضاً مثلما فعل في "الحياة حلوة" الذي حصل عنه على سعفة "كان" الذهبية في العام 1960.

لكن التغير الحقيقي في سينما فيلّيني اتضح في عمله "ثمانية ونصف"، فيلمه الأكثر شعرية والذي غيّر فيه من أسلوبه ليقدم حكاية رجل في خضمّ البحث عن نفسه على صعيد الذات والفن. كان "ثمانية ونصف" يختبر، سينمائياً، التفسيرات المعقدة لفهم فيلّيني عن فكرة التقدم في العمر وعمّا يعتبره مجموعة من التناقضات الدينية.

على أي حال، رغم يقال من تناقضات عن صاحب "مدينة النساء" و"السفينة تبحر" و "المقابلة" و"صوت القمر" وغيرها، فإن ما يهمّ حقاً أن لدينا ألف سبب لحبّ فيلّيني.

دلالات

المساهمون