الهند.. أساطير تكتم الأنفاس

الهند.. أساطير تكتم الأنفاس

28 نوفمبر 2016
("جنة"، كوشال روي/ الهند)
+ الخط -

أثارت الروائية الهندية جيتا هاريهارن (1954) ضجة في الأوساط الأكاديمية حين تناولت في روايتها "أزمنة الحصار" (2003) شخصية أستاذ يعدّ محاضرة عن الشاعر الباكتي باسافانا، زعيم مجمع الباكتيين (الموحدين) في القرن الثاني عشر، فيعترض زملاؤه ويمنعونه من إلقاء محاضرته، بحجة أنه لا يراعي الرؤية الهندوسية المتوارثة، ويخدش المشاعر الدينية. لم تكن شخصية هذا الأستاذ خيالية، بل كانت شخصية واقعية تعيش في الوسط الجامعي، مثلما كانت شخصية مسرحي منعوه من عرض مسرحيته للأسباب نفسها.

قبل ذلك، أثارت الروائية أرونداتي روي ضجة مماثلة، ورُفعت ضدّها قضية أمام المحاكم تطالب بمحو صفحات من روايتها "إله الأشياء الصغيرة" (1997) حيث رسمت علاقة بين أحد أفراد طبقة المنبوذين وبين امرأة من طبقة التجار، ليس لأنها جاءت بمشاهد جنسية كما ظن بعض من دافع عنها، بل لأنها أحدثت تناضحاً بين الطبقات، وخرقت بذلك الرؤية الهندوسية المتوارثة أيضاً، رؤية أن البشر كانوا وسيظلون أربعة أصناف: البراهمة والمحاربون والتجار والمنبوذون؛ ولا سبيل لأحد أن يتسلق الجدار الذي يفصل بين هذا وذاك.

في أساس هذا السجن ذي الحجرات الأربع، يقع الموروث المشار إليه؛ ملحمتان من أشهر الملاحم الشعرية الهندية؛ الماباراتا والرامايانا، وتشكّل كلتاهما ثقافة الإنسان الهندي الريفي وساكن المدينة على حد سواء، ولم تتغلّب على تأثيرهما، لا رؤية المهاتما غاندي الذي أطلق على المنبوذين تسمية "أحباب الله"، ولا أناشيد رابندرانات طاغور الإنسانية الآسية، ولا علوم العصور الحديثة.

لبّ مأساة الشخصية الهندية كما يرى كاتب هندي يعيش في بريطانيا يكمن في ذلك الجزء الأوسط من ملحمة الماباراتا الحربية المسمى "باجافاد جيتا"، أي الأغنية السماوية. وهي ذاتها الجيتا التي كانت أحد مراجع أبو الريحان البيروني (953-1048) في كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، والتي يطلق عليها الباحث المعاصر ناداماش ميهيتا تسمية "توراة الهندوس المقدسة".

هي أنشودة شعرية أو أغنية، على شكل حوار بين المحارب أرجونا وشري كريشنا المتخفّي على شكل سائق عربته. قبل أن تبدأ المعركة، يطلب رامي السهام بطل الملحمة أرجونا من سائق عربته إيقافها بين الجيشين المتحاربين ليعرف عن قرب من الذين يقاتلهم. ويسقط في يده حين يكتشف في كلا الجانبين وجوه أقربائه، الأعمام والأخوال والآباء والمعلمين والأحفاد والأصدقاء أيضاً، فيتراجع عن خوض المعركة، ويرمي قوسه جانباً، ويجلس في عربته مكتئباً، قائلاً للسائق أنه لن يقتل أحداً في سبيل مكسب أو مجد زائف، ولأن قتل الأزواج والآباء سيحدث خللاً اجتماعياً ويهدم النظام الطبقي المقدس.

بعد ذلك، تساهم رؤيته لعدوّه الشرّير الذي قاتله في الدنيا يتنعّم معه في الفردوس في حيرته واضطراب أفكاره، ويزيد اضطرابه حين يقال له إن عدوه استحق الفردوس لأنه قاتل بشجاعة. وأمام هذا الإحباط المزدوج، يتدخّل سائق العربة شري كريشنا، الذي هو تجسدٌ للسماوي حسب المعتقد الهندوسي، ويعالج ما يرى أنه "خلل" في عقل الشجاع الآري أرجونا، بتقديم فكرة أن ما يحسبه أرجونا قتلاً للبشر هو ليس كذلك على وجه الحقيقة، لأنه حين يحارب ويقتل إنما يقتل أشباحاً لأن الأرواح البشرية خالدة، ويحثّه على الإقدام، ويفلسف له واقعة أنه وعدوّه يذهبان إلى الفردوس بحجج مطوّلة عن غاية الحياة الدنيوية والآخروية، ويتوصّل أخيراً إلى إقناعه فيتناول قوسه وسهامه ويخوض المعركة.

في هذه الفلسفة "التوراتية" حقاً، زوال الحدود بين الصواب والخطأ، بين الحق والباطل، وفيها كما هو واضح شرعنة للقتل على أساس سماوي، وتقديس لنظام الطبقات، وللكثير من أركان الإيمان الضرورية، أي وضع أساس لما سيجعل حتى تحوّل المنبوذين إلى المسيحية في القرون اللاحقة "قفزاً من المقلاة إلى النار" بتعبير أرونداتي روي، وسيزوّد الأحزاب السياسية الهندية الحالية المتعصّبة بحافز ديني في سعيها إلى "إعادة كتابة التاريخ، وترسيخ ميول الأغنية السماوية تلك في نظم التعليم" كما تقول جيتا هاريهارن.

هي معركة هندية نجد شبهاً لها في ثقافات أخرى من جانبين؛ الأول، أنها معركة بين تفكير أسطوري عتيق يعتقل الذهنية المعاصرة، وبين نزعة تحرّر إنسانية، والثاني أن جذور هذا التفكير راسخة في أرضية أوسع القطاعات الجماهيرية؛ فحتى الهندي غير المتعلم يعتنق أفكاراً كهذه وصلته عن طريق المعلمين والدعاة شفاهة في أعمق أعماق الريف وأكثر زواياه عتمة. وسيخرج هذا الريفي البسيط غاضباً ومنتقماً ومسلحاً لمهاجمة كتاب ومفكرين يحاولون تقويض "معتقداته" المقدسة؛ هو الذي قيل ذات يوم إنه كان يتهيّأ لمشاهدة مسلسل تلفزيوني مأخوذ من هاتين الملحمتين بوضع أكاليل زهور على جهاز تلفازه، تبجيلاً وتقديراً لهذه القصص الأسطورية.

المساهمون