لبنان... حربُ نفوسٍ باردة

لبنان... حربُ نفوسٍ باردة

13 ابريل 2014
+ الخط -
 
أصرّت المرأة البريطانية، التي عادت إلى لندن مؤخراً بعد سنوات طويلة من العمل لدى عائلة لبنانية ثريّة في إفريقيا، على الحضور إلى اسكتلندا لمشاهدة مسرحية "الجميلة النائمة" للمسرحي اللبناني، عبد الرحيم العوجي. كل ذلك فقط لأنها تحكي  فصلاً من الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975، وتوقفت عسكرياً عام 1990 بعد توقيع اتفاق الطائف في السعودية. أرادت أن تعرف أكثر عن اللبنانيين أملاً في تفسير سرّ "النزعة الإجرامية" لدى مستخدميها. وبعد مشاهدتها المسرحية، تزعم أنها عرفت السبب؛ الحرب.

لا يمكن البناء على استنتاج العاملة الانجليزية والانطلاق من تجربتها الخاصة. لكن على الأقل، يبدو ذلك مؤشراً على النزعة الإجرامية التي تتفاقم في نفوس المواطنين اللبنانيين لأن حربهم الفعلية لم تنتهِ بعد.

لكل مرحلة أبطالها و"خطوط تماسها". فسابقاً قُسّمت بيروت إلى محورين: المنطقة الغربية للمسلمين والمنطقة الشرقية للمسيحيين. لكن المنطقة الغربية اليوم، منقسمة على نفسها عبر خطوط تماس تتقاطع داخل الشارع الواحد والمبنى والواحد والعائلة الواحدة. وعلى الجميع أن يتدبروا أمورهم اليومية على هذا الأساس.

يعيشون اليوم، بين ذيول الحرب الأولى الطويلة، وجمر تحت رماد الجولة الثانية. لا تختلف الاستعدادات كثيراً. ربما لأنهم باتوا ذوي خبرة. وشاء القدر، أن يجعلهم رُحّلاً بين حربٍ عسكرية وأخرى باردة.

عَلِقَ الصندوق الكرتوني الكبير في ذهن نادية. تقول "كان يقينا العوز". كانت تضعه على مقربة من باب المنزل. مكانه ثابت لا يتبدل. فحين يشتدّ القصف، لا يمكن إلا للوقت أن يسعفك. جمعت في هذا الصندوق أوراق العائلة الشخصية، وحليباً، وحفاظات، وثياباً للأطفال، ومونة. تقلّص حجمه اليوم، وجمعت الأساسيات في ملف يحوي الأوراق الثبوتية والشهادات الجامعية وبعض الصور العزيزة على قلبها.

زوجها أحمد، كان مقاتلاً. وعندما بدأت الحرب اضطرا إلى نسج علاقات مع الجيران والمحيط. وحدها هذه العلاقات كانت بوابتهما إلى المياه والخبز والوقود وغيرها من المستلزمات اليومية. كانا يتحدثان عن الحرب الأهلية بكل راحة كأنها مسلسل يعرض على محطة تلفزيونية. ملامحهما منفرجة لا عبوس فيها. اليوم يريان الوجه الجميل منها، لأن ما يعانيانه في الوقت الحالي قبيح ومؤلم. مستقبله غير واضح.

تخشى نادية الحرب الجديدة. تقول: إن جارها السني الذي شارك أسرتها الملجأ والأيام السوداء التي اضطروا فيها للاختباء تحت الأرض، لم يعد يزورهم اليوم أو يلقي التحية بسبب "مزحة" قيلت أمامه عن تلفزيون "المستقبل" التابع لرئيس الحكومة اللبنانية السابق، سعد الحريري.

تحكي عن قريبتها التي طلّقها زوجها لأن طائفتيهما المختلفتين خلقتا شرخاً في العلاقة. "هذه الحرب صعبة لشدة تداخلها". والأخطر حين نبدأ تلقائياً الحديث عن تعايشنا. تذكّر أنها اعتادت زيارة أقاربها في طريق الجديدة السنية. تعرف المنطقة جيداً لكنها تخاف المرور من هناك اليوم. سيعرفون طائفتها من خلال طريقة ربط الحجاب على رأسها. "لم يكن التفكير في الخوف وارداً في الماضي".

أولئك الذين عايشوا الحربين، باتوا يتحدثون برأفةٍ حيال الحرب العسكرية الطويلة الأولى. ربما لأنهم كانوا أكثر شباباً وإيماناً بقضية سياسية. ولأن كل الذي وراءنا يصير جميلاً دائماً. يذكرون تفاصيل سهلة بمجرد مقارنتها بالواقع الحالي. يستخدمون الكلمة عينها. "الألفة" التي كانت حاضرة بين الناس.

يقول، عبد الرحيم: إن الحرب هي طفولتي. لذلك لا يحمل ذكريات سيئة عنها. حين يشتد القصف كان درج المبنى، هو المكان الأكثر أماناً. يبسطون الفرشات على الأرض ويجلسون جميعهم بين السلالم في انتظار أن يتعب الرصاص. يتذكر أن هذه اللحظات كانت جميلة. لم يكن للموت وطأةٌ على طفل. فقط سيارات الـ"ماتش بوكس" التي كان يتسابق من خلالها مع أولاد الجيران، هي ما كان يقلقه. حتى أنه في عزّ الحرب، اصطحبه والده وأخوه الأصغر إلى المنطقة الشرقية لزيارة رفيقه المسيحي ـ الأرمني. كان يوماً جميلاً. لا حرب فيه. تناولوا الغذاء في مطعم أميركي للوجبات السريعة، وزاروا مدينة الملاهي.

في ذلك الوقت، ولّد الاكتظاظ مجتمعات متجانسة. "يوجد إنسانية مفرطة في الحرب، التي تولّد تعاطفاً بين الضحايا". لكن في حرب اليوم، لم يعد الأمر قائماً. أمس، كان المقاتلون على المحاور وحدهم مجرمين، جميع الناس مجرمون اليوم". هذه هي خلاصته. 

لا يؤمن العوجي بـ"حرب الآخرين على أرضنا". يقول "نحن صنعنا الحرب. لذلك هي مستمرة". ويضيف أنها "عرتنا، وجعلتنا نتصرف على حقيقتنا، وما نشهده اليوم هو التطور الطبيعي للمجتمع اللبناني".

بدأت شرارة الحرب الأهلية الجديدة منذ اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005. رست الاصطفافات السياسية في نفوس اللبنانيين، وصولاً إلى أحداث 7 أيار من عام 2008، التي تقمصت مشاهد من حرب الـ 75 لأيام قليلة.

ولّدت هذه الحرب حقداً في النفوس بين الطائفتين الشيعية والسنية. اختار كثيرون الابتعاد عن مناطق "التماس". لا سواتر ترابية بعد. لكنها معروفة. حتى في المبنى الواحد، بات بعض حذراً من المبالغة في مواقفه السياسية. الحذر واجب، لأن قرار الاشتعال قد يأتي في أي لحظة، والمسلحون جاهزون للانتشار.

القلق يومي. يخفت وينضج تبعاً للمستجدات. أصعب ما فيه أن الارتجال سوف يكون سيد الموقف. ماذا لو اندلعت الحرب؟ تقول جمانة: "إن الأمر صعب للغاية. أين نحتمي في ظل هذا التداخل؟ لن يسأل الجار عن جاره. سيترك كل واحد لمصيره". و"في ظل هذا الغلاء، سيموت الناس من الجوع".

حتى الجيل السابق الذي اختبر حرب الـ 75 عن وعي، مستعدٌّ اليوم، للقتال في حال اندلاعها. يقول حسن: إنه بات لدي الخبرة الكافية. الأمر ببساطة محصور في الدفاع عن النفس. إنها غريزة البقاء.

 

دلالات