"يأتون في الليل": تمثيلٌ يزيد قيمة فيلمٍ يكشف فظائع

"يأتون في الليل": تمثيلٌ يزيد قيمة فيلمٍ يكشف فظائع

07 سبتمبر 2023
"يأتون في الليل": شهادة سينمائية عن جُرمٍ فظيع (الملف الصحافي)
+ الخط -

يروي المخرج السلفادوري، الإسباني الأصل، إيمانويل أوريبي (1950)، في "يأتون في الليل" (2022، العنوان الإنكليزي: "ما الذي رأته لوسيا")، قصّة المجزرة التي ارتكبتها وحدة كوماندوس سلفادورية، درّبتها المخابرات الأميركية في مبنى "الجامعة اليسوعية" في العاصمة سان سلفادور، عام 1989، وراح ضحيتها 6 رهبان، يُدَرِّسون فيها اللاهوت، ومعهم عاملتان تديران شؤون إقامتهم فيها. لم يرَ أحدٌ الجنود وهم ينفّذون، في عتمة الليل، ما أمرهم به جنرالاتهم، إلاّ لوسيا سيرنا، التي تُمسي، من تلك اللحظة، الشاهدة الوحيدة على جريمتهم.
يأخذ أوريبي، كما فعل في أفلامٍ له تناولت الصراعات السياسية في إسبانيا وأميركا اللاتينية، مقطعاً صغيراً من سياقها العام، ويبني عليه رؤيته السياسية. هذا ملحوظٌ في فيلمه المهمّ عن حركة "إيتا" الإسبانية الانفصالية، "أيام معدودة" (1994). تركيزه على حياة لوسيا سيرنا (الكولومبية خوانا أكوستا)، وتهميشه الوقائع التاريخية المُرافقة لتحوّلاتها، يتوافقان مع رؤيته الصراعات السياسية والعسكرية، التي تصيب ويلاتها لا المتورّطين فيها فقط، بل تمتدّ نيرانها إلى آخرين غيرهم، وتقلب حياتهم رأساً على عقب. معاينتها على صِغَر ما تأخذه من مساحة الأحداث الدراماتيكية تُفيد، أحياناً، في التعبير عن فظاعاتها بعمق أشدّ. لهذا، وجد في القصة الطويلة للسلفادوري خورخي غالان، "نوفمبر" (2015)، المُكرّسة لسرد تجربة لوسيا سيرنا، ما يبحث عنه لإكمال تصوّره عن الشاهدة الوحيدة، المتشبّثة بقول حقيقة ما رأته، والعمل على تجسيده سينمائياً.
باقتراب نيران الصراع المسلّح والمحتدم بين الثوار والجيش السلفادوري من بيتها، وخوفاً على حياة عائلتها، تقنع زوجها الخَبّاز، الذي بات بلا عمل بسبب شَحّ الطحين في مناطقهم الفقيرة، على الانتقال إلى "الجامعة اليسوعية"، التي تخدم إدارتها، والطلب من أساتذتها المبيت، مؤقّتاً، في المساكن المخصّصة لهم. لم يخطر ببالها أنّ ذهابها إلى هناك سيُغيّر مسار حياتها، وأنّها ستشهد فيه موت الرهبان، المُقدّمين لها العون دائماً. فيهم، رأت طيبة وعوناً للفقراء؛ وفي مواقفهم، انسجاماً مع أفكارهم، وتمثيلاً حقيقياً لدعاة "لاهوت التحرير".
لم يُخفِ الرهبان توجّهاتهم، ولا تنكّروا لمساعيهم السابقة إلى التقريب بين الحكومة والثوار، التي أثمرت اتفاقاً لم يرضَ عنه الجنرالات والمخابرات الأميركية. لهذا، ناصبوهم العداء، واتّهموهم بالتعاون مع المسلحين، ومساعدتهم على تنفيذ عمليات "إرهابية". بدورهم، تعامل المسلّحون معهم بوصفهم وسطاء مداهنين. الجملة التي يقولها أحد الأستاذة، وهو يستمع إلى أغانٍ ثورية تدعو إلى المساواة وإنصاف الفقراء، يُغنّيها زميل له، تختصر مخاوفهم، وتحدّد الجهة التي يُحتمل أنْ يأتيهم الموت منها: "إذا قُتلنا في النهار، فمن المرجح أنْ يكون المسلّحون وراء ذلك الفعل. أما إذا أتوا في المساء، فالمؤكّد أنّهم الجنود".
شهادتها عمّا رأته في تلك الليلة لم تُغيّرها. ظلّت تُكرّرها من دون تحوير. قالتها لإدارة الجامعة، وللناشطين الحقوقيين، ولسفيري فرنسا وإسبانيا في بلدها، وفي الغرفة التي يجري رجال المخابرات الأميركية تحقيقاتهم معها، ويريدون منها تغيير إفادتها. لم يخطر في بال من يريد طمس حقيقة ما جرى أنّ حيلة اختطافها، ونقلها إلى المدينة الأميركية ميامي، بحجة حمايتها وزوجها من انتقام الجيش، تنتهي من دون تحقيق ما يريدون منها. لم تنطلق في موقفها الصلب من عزيمة سياسية أو قناعة فكرية. بالنسبة إليها، الأمر بسيط: رأت مشهداً بعينيها، وتُعيد سرده للسائل عن تفاصيله، ولا تجد مُسوّغاً أخلاقياً لتحويره أو تكذيبه. رجال المخابرات الأميركية، وتوافقاً مع سياسة بلدهم الداعم للحكومة السلفادورية، ولجنرالات الجيش المُحرّكين لها من الكواليس، يواصلون الضغط عليها بأبشع الوسائل. في مسار تحقيقاتهم معها، تدخل أطراف كثيرة، لم تتخيّل لوسيا، ولا زوجها خورخي (خوان كارلوس مارتينيز)، أنّهما سيواجهانها يوماً.
مخاوفها وارتباكاتها إزاء تعقيد الوضع، الذي وجدت نفسها فيه، يُعبَّر عنها درامياً بتمثيل مذهل، يرفع من أهمية المُنجز، الملازم له باشتغال سينمائي رصين، يلامس المشهد السياسي والمخابراتي المتشابك، ولا يفارق مركزه. امرأة بسيطة، لم تعد شاهدة على جريمة قتل، بل أيضا على نذالات دول ومؤسّسات تريد مسخ براءتها وصدقها. جهات لا ترى وجوهاً. اسْتقْتَالها لتكذيب روايتها يُزيد من حيرتها، ومن إحساسها بقسوة العالم المحيط بها. في مشهدٍ (فلاش باك)، يُمهِّد لنهاية مفتوحة لمسار فيلمٍ كاشف، تظهر لوسيا في كاليفورنيا، وإلى جانبها يقف القس الأميركي بول إس تيبتون (بن تمبل)، الذي لم يتخلَّ عنها، وبنفوذه يعقد صفقة بينه وبين أطراف فاعلة في القضية، تُبقيها بعيدة عن بلدها حفاظاً على حياتها، وتضمن أيضاً للمخابرات الأميركية إبقاء دورها في تدريب الفرقة العسكرية، التي ارتكبت المجزرة، خفيّاً. كما تمنع تقديم الجنرالات، الذين أمروا بتنفيذها، إلى المحاكم.

سينما ودراما
التحديثات الحية

لتأكيدها، يثبت دانييل سيبريان، كاتب السيناريو الرائع، معلومة مفادها أنّ نشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان نجحوا في تقديم جنرال سلفادوري واحد فقط إلى محكمة دولية، أدانته، وحُكم عليه غيابياً بالسجن أكثر من مائة عام.
في مُنجزه المهمّ هذا، يؤكّد إيمانول أوريبي مُجدّداً قدرته على كتابة نصوص سينمائية، تقارب أحداثاً سياسية متشابكة الخيوط بأسلوب متفرّد، يستنبط منها قصصاً، أبطالها أناس بسطاء، تكفي براءتهم لتعرية قذارة الكبار المتورّطين فيها وبشاعتهم.

المساهمون