موسيقى سبعينية الملكة إليزابيث: ما يطلبه المستمعون

موسيقى سبعينية الملكة إليزابيث: ما يطلبه المستمعون

12 يونيو 2022
من العروض الاحتفالية (جيف ميتشيل / Getty)
+ الخط -

"ليحمِ الرب ملكتنا السموحة. لتحيَ طويلاً ملكتنا النبيلة. ليمنّ عليها الرب بالنصر والمجد والسعادة. وليُدِم مُلكها علينا طويلاً، ليحمِ الرب الملكة". بتلك الجمل، يبدأ النشيد الملكي البريطاني. أصله يعود إلى القرن الثامن العشر. قد ذاع حينها كأهزوجة وطنية، بعدما قهر "الفارس الصغير"، الأمير تشارلز إدوارد، جيوش ملك بريطانيا جورج الثاني قرب العاصمة الإسكتلندية إدنبره، ليتربع بموجب ذلك النصر على العرش.

نشوة الشعب وحميّته الوطنية إثر الفوز المؤزّر، حدت بقائد الفرقة الموسيقية الملكية، إلى أن يُعيد توزيع الأهزوجة لتصير نشيداً يعزفه موسيقيو البلاط في كل مناسبة يحلّ بها الملك أو الملكة ضيفاً، على إحدى العروض الترفيهية. بما أن بريطانيا وعلى مدى مئتي عام قد مرّت على حكمها ثماني ملكات، جرى استبدال لفظ الملك الوارد في النشيد الأصلي بالملكة.

واليوم، تحتفل بريطانيا وسائر دول التاج (الكومنولث) بمرور سبعين عاماً على تولي الملكة إليزابيث الثانية (1926)، العرش، لتكون بذلك الولاية الأطول بتاريخ الملكية. اسم إليزابيث لم يرتبط فقط بانتقال بريطانيا من إمبراطورية شاسعة مترامية الأطراف، إلى مجرّد واحدة من بين القوى الغربية الكبرى المنضوية تحت لواء الإمبراطورية الأميركية الناشئة.

إنما ارتبط الاسم، أيضاً، بحقبة تاريخية متأخرة من تاريخ الملكية، لعبت العائلة المالكة خلالها، بشخصياتها وما دار حولها من شائعات وتسببت به من فضائح، دوراً بارزاً في الثقافة الجماهيرية. بذلك، أصبحت علامة في ميدان الترفيه، ليس في بريطانيا وحدها، وإنما حول العالم.

من مظاهر العلامة الثقافية الملكية تلك، كانت المقطوعات الموسيقية التي ارتبطت تاريخياً بالتاج البريطاني. سواء بصورة مباشرة، كالأعمال التي كُلِّف بكتابتها خصيصاً من أجل المراسم الملكية المتنوعة، وعُزفت في أرجاء البلاط والمرافق العامة المرتبطة به، ككنيسة دير ويست منستر في لندن، أو الأعمال الموسيقية التي أحبتها الملكة وأسرتها، وواظبت على الاستماع إليها، فأصبحت على قوائم الاستماع الخاصة بها، وبالتالي على قوائم الاستماع الخاصة بمُحبيها ومتابعيها داخل دول الكومنولث وخارجه.

من بين المقطوعات الأكثر شهرة، تلك التي عُزفت خلال مراسم تتويج الملكة اليزابيث الثانية ذاتها سنة 1953. حينها، وقُبيل بدء دوقة إدنبره بأولى الخطى نحو العرش، عُزفت موسيقى المؤلف البريطاني الأكبر لحقبة الباروك، هنري بورسيل (1659 - 1695). المقطوعة هي الشاكون Chaconne من أوبرا بعنوان "الملك آرثر".

والشاكون هو قالب إيقاعي قديم، مبنيٌّ بالأصل على رقصة بلاط بثلاث خطوات، تتسم بالبطء والجلالة. تعتمد في معالجتها على تدوير اللحن الأساسي، عبر تنويع الأشكال التي يُعاود الظهور من خلالها منعاً للتكرار. ذلك يجعل الشاكون قالباً مثالياً لمصاحبة المراسم التي قد يتوالى فيها كل من صمت الانتظار والترقب، ومن ثم إيقاع المشي البطيء.

من جعبة حقبة موسيقية أقرب إلى الحداثة، عادة ما يجري اختيار مقطوعة "العرش الإمبراطوري" (Crown Imperial) لمؤلف القرن العشرين، وإن بنكهة القرن الذي سبقه، البريطاني ويليام والتون (1902 - 1983). ففي أجواء القارة الأوروبية المتلبدة بسحب داكنة، تحمل أنباء حرب عالمية قادمة، جرت سنة 1937 مراسم تتويج الملك جورج السادس، ليقود الجهود الإمبراطورية بمواجهة القوى الفاشية الصاعدة في كل من ألمانيا وإيطاليا. لذا، تطلبت المناسبة موسيقى واثبة، واثقة وبرّاقة. تحمل بوارق الأمل بالنصر في المعارك المقبلة. يعكسها عتاد طبول الأوركسترا وأبواقها النحاسية من ترومبيت وهورن.

خلال حفل تتويج الملكة إليزابيث أيضاً، وبالوهج ذاته من الحميّة والحماسة الوطنية، استمع الحاضرون إلى مقطوعة "كوكب المشتري" لمؤلف إنكليزي، عاصرَ والتون، هو غوستاف هولست (1874 - 1934). وهي واحدة من سلسلة مقطوعات معروفة باسم "الكواكب"، تمجّد المجرة التي تحتضن الأرض. أخذ هولتس على عاتقه إعادة كتابة "المشتري"، وعلى الأخص المقطع اللحني الذي تعزفه الوتريات، وذلك من أجل أن يوائم خطبة، كان قد كتبها الدبلوماسي البريطاني سيسيل سبرينغ رايس سنة 1908، مدح بها الجيش الإمبراطوري بلسان جنوده. تضمنت كلماتها عهداً بخدمة البلاد، من عليها وما عليها، والذود عن حِماها.

أما الرسالة التي أُريد للموسيقى أن تحملها سنة 2022، خلال أيام أربعة متتالية من الاحتفالات بمرور الذكرى السبعين لتولي الملكة زمام الحكم، فهي القرب من الشعب. الشعب، كما تبدو ملامحه اليوم؛ إذ بات متنوع الألوان والثقافات إلى حد لم تعد معه موسيقى بورسيل أو والتون تمثّله وتعبر عن دواخله. كما أن بريطانيا ما بعد "بريكست"، أي الخروج من الاتحاد الأوروبي، وسلسلة الفضائح التي لم تعد تلاحق الأسرة الملكية فقط، وإنما الحكومة من رئيسها إلى مستشاريه وقواعده الحزبية، لم تكن لتستدعي ما يؤجج مشاعر البطولة والفداء، ولا ما يؤكد مظاهر الأبهة والعظمة.

لذا، هذه المرة، استُدعي إلى الفعاليات "ما يطلبه الجمهور"، وما صار يرمز بصدق أكبر إلى بريطانيا المعاصرة، بوجهيها الملكي والليبرالي، والأدوار التي باتت تؤديها اليوم حول العالم. فرقة الروك الأسطورية "كوين" (Queen)، والاسم يعني "ملكة"، كانت قد حظيت بشرف افتتاح العروض. أعقبتها كوكبة من نجوم المشهد الغنائي الإنكليزي، ومن كل المشارب والمدراس والاتجاهات الفنية والثقافية.

من خلال أغانيها التي سبق لها أن حققت رواجاً كبيراً، استعرضت، بدورها، النجمة الأميركية أليسيا كيز (Alicia Keys) عناوينَ كـ"المرأة الخارقة" و"امرأة تلتهب"، لتبدو كما لو أنها تُشير إلى سيرة الملكة البريطانية، كدليلٍ آخرَ على تاريخٍ من تمكين المرأة لا بد له أن يمضي قدماً. أما النجم إلبو (Elbow) فقد آثر الإشارة إلى قضية الهجرة واللجوء، وذلك باعتلائه الخشبة، هو وجوقة غنائية تضم لاجئين من ثلاثين بلداً تعيش القلاقل والحروب.

على الرغم من هامشية الدور الذي تلعبه في السياسة البريطانية، إضافة إلى ثرائها الفاحش وفضائحها المتعاقبة التي لا بد لها أن تُثير حفيظة المواطن العادي، فيما هو يتصدى لظروف حياةٍ تزداد صعوبة كل يوم، ما زالت الملكية تؤمن للبريطانيين مكُوّن هوية جمعية، لا يبدو أن كثيرين منهم يرغبون حقيقةً في الاستغناء عنه. ففي غمار نظام رأسمالي نيو - ليبرالي يتغيّر باستمرار، تؤمن الملكية قبساً من الاستمرارية والاستقرار، وإن ظل الأمر محصوراً بمجرّد طقوس شاي وموسيقى وظهورات استعراضية تشغل الفضاء العام بين الحين والآخر. 

المساهمون