مسلسل You يستلهم أسلوب روايات القرن الـ19

مسلسل You يستلهم أسلوب روايات القرن الـ19

22 يناير 2022
في المسلسل راوٍ تقليدي يعلم كلّ شيء ويسخر من بطل الرواية الفيكتورية (نتفليكس)
+ الخط -

تنشر شابّةٌ عشرينية صُوراً عن حياتها البهيجة على "إنستغرام"، حيث ستجري المذابح المقبلة (سلسلة "أنت" You، ابتكار غريغ بِرْلانتي وسِرا غامْبل، 3 مواسم بين عامي 2018 و2021). تستمتع مع صديق عابث وغنيّ يحتقرها. تحلم أنْ تصير شاعرة، بمساعدة أستاذ من فصيلة "الخدمات المسبقة مقابل الامتيازات". تشتري كتباً في نيويورك، حيث تلتقي جو (بِنْ بادْجلي). تجذبه بابتساماتها السخية. ترى نفسها كبطلة Pretty In Pink الذي أنجزه هاورد دويتش عام 1986.

جو شابٌ يُدمن الأدب، ويعرف تفاصيل سلوك الوحش في رواية "فرانكنستاين" (1818) لماري شيلي، بينما تعيش الشابّة واقعاً صعباً، لا يتطابق مع صُورها على "إنستغرام". إنّه شخصٌ عميقٌ، وهي سطحية. هو بطلٌ مُستلٌ من روايات دوستويفسكي في تركيبه. مثقفٌ كبير، يقدّس الكتب، ويعتبر المكتبة معيار تميّز البشر عن القردة. شابٌ عتيق الطراز، وبطلٌ مُطابق لذاته. لا يبذل أيّ جهدٍ كي يبدو أمام الغير شخصاً آخر. فضولي، وخبير بالأمزجة السيئة. كلّ مرة يتصرّف فيها بنيّة حسنة، تكون النتيجة كارثية. يُغرم بفتياتٍ مهووسات بمواقع التواصل الاجتماعي، ويعرضن تفاصيل حياتهن الشخصية على الغرباء. يختار القارئ العاشق فاتنات طموحات جداً، ويفعل أيّ شيءٍ ليحتفظ بهنّ. لهذا كلفة رهيبة.

من هنا ينبع التشويق. جو بطلٌ يتقدّم في الظروف كلّها. مع مرور الزمن، تضعف عزيمته، وهو يتذكّر طفلاً مرعوباً في ممرّات فندق، حيث ربّاه حارس سجون سوفييتي. وازن السيناريو بين طفولة البطل ورجولته. بعد الحلقة 16، صار جو ينظر إلى الوراء، مسترجعاً ذكرياتٍ من منزل الأب المتوفي. يُفترض بماضي الشخصية أنْ يُفسّر حاضرها. طفلٌ، ثم رجلٌ، يبحث عمّن يحبّه، لتتحقّق سعادته.

في رحلة البحث الصادقة هذه، يرتكب جو حماقات ضرورية. مُجرم يتحرّك بسلاسة في فضاء بلا حواجز، في زمن البصمات والكاميرات التي تقرأ الوجوه. يتصرّف بحرية، كأنّ الشرطة غير موجودة.

الموسم الأول من سلسلة "أنت" عن فنّ الرواية، والثاني عن فنّ السينما، والثالث عن محنة حبّ الأسرة، الذي تحقّق ببيع الروح إلى الشيطان ("فاوست" لغوته، 1808 و1832).

سينما ودراما
التحديثات الحية

جو قارئ نموذجي، يدير مكتبة. قاتلٌ متسلسل، يحرّكه حافز نبيل. يخشى عقوبة الشرطة أكثر من ما يخشى الله. يرحل إلى لوس أنجليس، ويتعلّم استخدام الهاتف أكثر من الكتاب. هنا، يحتلّ البحث في "غوغل" ووسائل التواصل بالهاتف مساحة كبيرة في السيرة. تجري الحوادث على الهاتف. هنا، يكذب الأفراد ليجعلوا حياتهم تبدو أجمل. في لوس أنجليس، يظنّ الناس أنّ الفنّ يوجد في الأفلام لا في الكتب. ينشرون سِيَرهم على مواقع التواصل، بحثاً عن النجومية، أو انتقاماً من الآخرين. "لن تحصل على موعد. ليس لديك ما تُقدِّمه. الوصفة خليطٌ من الموهبة والعمل المستمر لتطوير السيناريو. هذه الوصفة لا تملكها. لديك أفكار، لكنْ ليس لديك ما تقوله".

هذا مشهدٌ توقّف عنده جو في لوس أنجليس بعد هجره نيويورك. ما أصعب أنْ يتدحرج الفرد في عالم الفن زمناً، ليكتشف بنفسه، بألمٍ وفي حالة سكر، أنّه بلا موهبة. القارئ النموذجي يُدير مكتبة. جاء إلى هوليوود ليعيش فيها، ويُحلّل العالم الجديد بمعجم السينما، ورطانة مواقع التواصل الاجتماعي.

بصّاصٌ بمنظار كبير، يستخدم الرؤية من خلف. يعرف كلّ شيء، ويعلم ما يدور في أذهان الشخصيات. مُطّلعٌ على التفاصيل. يحقّق حتّى في سيرته. في الموسم الثاني (الموسمان الأول والثاني مقتبسان من أول روايتين في ثلاثية الكاتبة الأميركية كارولاين كابْنِس، الصادرة عام 2014، بينما الموسم الـ3 مكتوب مباشرة للسلسلة)، تغيّر المكان وشخصيات الطوق المحيطة بالبطل، الصديقة والعدوّة. نكتشف الشخصية الرئيسية ومكان عملها، وشخصيات الطوق، أي العشّاق والصديقات اللواتي يعبِّرن عن آرائهن الصادمة في أولئك العشّاق.

في المسلسل، راوٍ تقليدي يعلم كلّ شيء، ويسخر من بطل الرواية الفيكتورية. مسلسلٌ بعمق أدبي، تصير فيه الكتابة علاجاً. بائع كتب يكتشف عوالم مواقع التواصل الاجتماعي بسلاح رواية القرن الـ19، أي بعِلمَي الاجتماع والنفس، وبالراوي العليم المُفسّر. بصّاص سوسيولوجي مهيمن. يصير هذا أعمق، حين يُعير الراوي صوته العارف إلى الشخصية، لتحلّل نفسها، وتُجري نقداً ذاتياً. يحلّل العلاقات الاجتماعية في حوارات، ناتجة من مزيج مونولوغ العقل الباطن، وردود فعل العقل الواعي. حوارات تصادم ما يروِّج سرّاً في ذهن الشخص، وما يقوله. يُكسَر العادي بجملٍ، ينبغي عدم قولها.

هذه ليست مطاردات "لا كاسا دي بابيل"، ولا مسابقات "لعبة الحبار". بخلاف المسلسلات التلفزيونية التقليدية، يتحرّك بعض مسلسلات منصّات المُشاهدة في خلفية ثقافية عميقة، وتُوجّه إلى نخبة متعلّمة، لا إلى ربّات البيوت.

عامل مكتبة فقير يعشق ابنة أغنياء. لذلك، يتحمّل حماقات شقيقها المراهق. يُقامر بكلّ شيء، وينجو. يراقب عشّاقاً يُذلّون ويُهانون بسبب الخيانات. يُهدي جو رواية إلى طفلٍ، تحكي عن بطل يشبه سلوكه. شريرٌ يُحبّ، ويستخدم معرفة أدبية ونفسية عميقة في أعماله. يتعامل مع طبيب نفسي لا يُقرّ أنّ الوعي والعقل أساس الوجود. طبيبٌ، له ملامح سيغموند فرويد، صار مؤمناً مسيحياً بشدّة في السجن. يُقدّس رواية "مرتفعات وَثِرينغ" (1847) للبريطانية إميلي برونتي. تستلهم حلقة "العيش مع العدو"، في مكان ضيق، رواية "كونت دو مونت كريستو" (منشورة على حلقات بين عامي 1844 و1864) للفرنسي ألكسندر دوما. تبدأ الحلقة الـ20 باستشهادٍ للروسي دوستويفسكي، في مسلسل عن قارئ نموذجي يدير مكتبة.

تهمّه رفقة الكتب أكثر من رفقة البشر. يفهمهم ويصنّفهم. يساعد جو كاتبة، تبني مجدها الأدبي على آلامها، لأنّ والدها الرهيب مات. تقتل والدها وهو حيّ، لتكتب. التفكّك الأسري في أشدّ حالاته، تترتّب عليه جريمة وعقاب. يليق بمن يشاهد المسلسل أنْ يتّهم دوستويفسكي بأنّه ارتكب الجرائم التي رواها في كتبه.

"أنت" مسلسل مُصوّر بجودة فيلم سينمائي. فيه حلقات تطرح أسئلة، وأخرى تُجيب. هذا يضمن تماسك المواسم والحلقات. يُعفي الثراء الأسلوبي الناقدَ من التركيز على الموضوع الموسوعي، الذي يشبه نهراً مُتدفّقاً. مسلسل مُشبع بالتناص الأدبي والسينمائي. من دون تناص، تصير الحكايات والأفلام سطحية.

المساهمون