مسلسل "حبّ وموت "... الفأس تضرب الضحية 41 مرّة

12 يونيو 2023
العمل من بطولة الممثلة إليزابيث أولسن (HBO)
+ الخط -

تمتلك وقائع الجرائم الفعليّة عناصر درامية تجعل خضوعها للاقتباس مسألة وقت، ضمن سوق فنّيّ مرحّب، ومع نظام بثّ يتبنّى مسلسلات قصيرة محدودة. تتكئ هذه الإنتاجات على غرائبية الواقع، وباعتبار الجدل المرافق لصدورها مضمونًا، يبدو رواج المُنتج حتميًّا؛ لا مجال لحصر النقاشات المحتدمة من مخاطر تمجيد القتلة -مثل تيد باندي- وأحقّية اعتراض ذوي الضحايا على الاستثمار بمآسيهم، وكلّيّة مفهوم الحقيقة بحدّ ذاته.
أقدمت كاندي مونتغيمري، في عام 1980، على قتل بيتي غور مستخدمةً فأسًا، وكلتاهما مقيمتان في إحدى بلدات تكساس وترتادان ذات الكنيسة. تنطوي التفاصيل على وجود علاقة غرامية بين زوج الضحية والقاتلة. هزّت الجريمة حينذاك المجتمع المحافظ في ويلي، وانتهت باعتبار كاندي غير مذنبةٍ؛ بعد اقتناع المحلّفين بفرضية الدفاع عن النفس.
أنهت شبكة HBO عرض اقتباسها لأحداث الجريمة Love & Death (حب وموت)، نهاية شهر مايو/أيار الماضي، وأدّت إليزابيث أولسن دور كاندي بإمضاء الكاتب ديفيد إي كيلي، وبذلك تكون الجريمة قد اقتبست مرّتين خلال عامٍ واحد بعد تجسيد جيسيكا بيل الدور ذاته في شبكة Hulu بمسلسلٍ حمل اسم الشخصية. 
وفّرت خامة الحكاية موضوعاتٍ عدّة، الحيّ المحافظ والمجتمع الكنسي، إلى جانب الخيانات الزوجية، وبالتأكيد جولات المحاكمة وأذيّات الطفولة، إلّا أنّ كلا المسلسلين أحبطا التوقعات، ولم يحققا تعليقًا متماسكًا عن الحقبة الزمنيّة، ولم يتمكنا من نقل الحوار المجتمعي وشرخه إلى زمن العرض/الإنتاج. راوح كلا المسلسلين حيث شبكته المنتجة؛ فأتى عمل كيلي كأعماله السابقة (Big Little Lies وThe Undoing) يفيض بالألوان، ويحفل بالقطعات المونتاجية مع اختيارات للموسيقى التصويرية من أغاني تلك المرحلة، بينما حافظ Candy على المزاج القاتم والجنوح للميلودراما، كما في تعاون بيل السابق مع نفس الشبكة في The Sinner.


يتبادر إلى الذهن فور عرض المسلسل عمومية العنوان. وكأن القصة لا تحمل خصوصيّةً. أقرب تفسير ممكن هو انتصاف العمل بعد حلقته الثالثة، وسيادة الموت على موضوعه، بعد أن شابته في بدايته أعمال الرومانسية الكوميدية، إنمّا عن خيانةٍ زوجية، وتحولّه بعدها إلى عملٍ تحقيقي، ومن ثمّ التركيز على ردهات المحكمة.
لم يتكلّل خيار جعل كينونة كلّ حلقة تحاكي أشكالًا فنيّةً أخرى بالنجاح، فظهر قسم القضية مُستعجلًا، ونالت القاتلة جلّ الوقت، بينما تتعامل مع ملل الحياة الزوجية، وإثارة اللقاء في الفندق الرديء، وصولاً إلى تناول فعل القتل بحد ذاته، وفقًا لرؤيتها.
يتعامل المسلسل بلا مسؤولية مع الحدث، وفق تراتبية مشهديّة أقرب إلى الإزعاج. تملي كاندي شهادتها في المحكمة، بينما نراها تهوي بالفأس على الضحيّة 41 مرّة. يُراد لهذا أن ينعكس عند الجمهور، لإشراكه بالتجربة ووضعه أمام تحدٍّ أخلاقيٍّ، إنّما ليس هناك بُعد إضافي لهذا الخيار، فالجمهور بصدد استعراضٍ لوقائع تنتهي بالنطق بالحكم، وما من صراعٍ دراميٍّ جانبي أو إيحاءٍ يربط ما نشاهده بأي حالةٍ ثقافيةٍّ أو اجتماعيّةٍ راهنة. 
تبتعد مسلسلات الجرائم الحقيقية عن الروي الخطّي للحكاية، فالتنقلات الزمنية تحافظ على عنصر التشويق، وهي مساحةٌ للهو وتوضيح التباين قبل الجريمة وبعدها، كما تكسب ثِقلًا من تصوير المتغيرات الاجتماعية وتحديد الرائج من الثقافة العامة الذي يتسلل إلى حوارات الشخصيات. 
افتقر Love & Death في تركيبته إلى ما يحيلنا إلى الواقع الاجتماعي أثناء الحدث، وبقي محدودًا بتأثير الجريمة على جانب العلاقات الزوجية في المجتمع المحلي، تاركًا معظم التفسيرات الآنية والتفاعل الإعلامي الأوسع مع القضية خارج الاقتباس الدرامي.

يستعصي حضور الشخصيّات المركبة في هذا النوع الفنّيّ، وتقتصر المعالجة في الغالب على شخصية القاتل، بينما تستظلّ بقية العناصر ضمن رؤيةٍ نمطيّةٍ سطحيّةٍ، أقرب للكاريكاتورية، فنكون أمام مشهديّةٍ من بعدٍ واحدٍ للسبعينيات (أو أي فترة زمنيّة أخرى) بتكاليف باهظة، تُسلب المرحلة من ألقِها، وتُضيّق زاوية النظر لها، سواء كانت نسويّةً أو تشريعيّةً، أو تتناول المعتقد. يسهل الانزلاق إلى فخّ تحويل القتيل والقاتل إلى ضحيّة فكريّة، تحيل الحدث إلى ظرفية المكان والزمان. نقصد هنا التسليم بهذه "الحقيقة" أو الاكتفاء بالإشارة إليها بشكل سقيم، من دون سبر أو تفاعل يميّز الظرفي عن الذاتي.
نرى في قصة كاندي اللجوء إلى التنويم المغناطيسي لتفسير ثورتها الغاضبة، ويحضر استخدام تقنيّة جهاز كشف الكذب. يمرّ التفصيلان من دون مساءلة أو تحرّ أكثف عن هذه المنهجيات في التحقيق، إلّا أنها توفّر مساحةً لأداء ممّيز من أولسن. وباستثناء ذلك، لا نشهد ذرواتٍ أدائيّة أو لحظات صراع راسخة، فالشخصيّات منكفئة على الأسطر المستقاة من مقابلات ومحاضر رسمية.
تحضر مقولةٌ رتيبةٌ في الأعمال الفنية المنتمية لنمط الجرائم، مفادها أن ما يتبع الجريمة هي جهود لتكوين قصّة الضحية، فلدينا الشهود والمشتبهون والمتّهمون ولكلّ قصته باستثناء من فقد حياته، إذ تترك الضحيّة خصلات من الشعر، وبعض الندوب، وعلاماتٍ حيوية. تكسر مسلسلات الجرائم المبنية على حوادث حقيقية هذه البديهية، إلى جانب رتلٍ آخر من البديهيات، فتكوين قصة الضحية عرضةٌ للإبداع، ومرةً تلو الأخرى، تترسخ رواية مرتكب الجرم على حساب القتيل.

المساهمون