ماريا كالاس... الإلهة في زمنها الموسيقي

ماريا كالاس... الإلهة في زمنها الموسيقي

04 ديسمبر 2023
مرّت 100 عام على ميلادها (Getty)
+ الخط -

تعني كلمة ديڤا (Diva) باللغة الإيطالية سليلة الآلهة. مع تربُّع المسرح الغنائي على عرش الفنون في عموم أوروبا القرن الثامن عشر، والذي نشأ في الأصل وتبلور في إيطاليا، أُطلق وصف ديفا على المغنية صاحبة الدور الرئيسي في المسرحية الغنائية، أي الأوبرا، التي غالباً ما تبنى حول شخصية نسائية مركزية، تدور حولها الأحداث الدرامية، كما تُلحّن لأجلها أهم الأغنيات، أو "آريا"، كما تعرف ضمن مصطلحات الموسيقى الكلاسيكية.

فلكي تُطوّب مغنية الأوبرا "ديڤا"، لن يكفيها أن تتمتع بأحلى حنجرة وأحسن صوت، ولا أن تتفوّق على قريناتها لجهة الأداء الموسيقي والمسرحي، وإنما ينبغي عليها أيضا أن تكون ذات جاذبية خارقة للعادة، أن تكون لها هالة وحضور، أن تسحر طلّتُها النفوس، ليس فقط من على خشبة المسرح، وإنما أيضاً في رحاب الفضاء العام.

لعل مغنيةً على مدار القرنين الماضي والحالي، ولربما على مدى تاريخ الأوبرا، لم تتماه في الوعي الجمعي مع لقب ديڤا، كما تماهت معه المغنية الأميركية، يونانية الأصل، ماريا كالاس (1923 - 1977) التي يُصادف اليوم 2 ديسمبر/كانون الأول الذكرى المئوية لمولدها. بل إن كالاس قد تجاوزت لقب ديڤا، لتُلقّب هي وحدها بالإلهية (La Divina). وفي منتصفَ القرن العشرين، أصبحت شخصية عامة وأيقونة جماهيرية ذات شأنٍ عالمي، تملأ أخبارها الدنيا وتشغل الناس، بمن فيهم من لم يكن بالضرورة مُحبّاً للأوبرا والموسيقى الكلاسيكية.

تُعدّ آريا الآلهة الطاهرة (Casta Diva) في الفصل الأول من أوبرا نورما (Norma) للمؤلف الإيطالي ڤنسينسو بيلّيني (Vincenzo Bellini) خير مثال، سواء بالمعنى الحرفي للعنوان أو "الكالاسي" لجهة كل من الأداء والجاذبية، على تماهي ماريا كالاس الخالص مع لقب ديڤا. فيها، تلعب دور البطولة من خلال شخصية نورما، وهي كبيرة كهنة شعب الدرويد السلتيّ من السكان الأصليين لغرب أوروبا قبل المسيحية. أما الآريا التي تؤديها، فمناجاة تبتهل نورما من خلالها إلى القمر، بوصفه رمزاً للطهارة والسلام، بحسب معتقدات الدرويد.

تتعدّد المستويات الإبداعية التي تتجلى فيها مقدرة كالاس على استحقاق لقب ديڤا. أولها وأهمها المستوى الأدائي، فتطاول حنجرتها الحواف القصوى للتعبير الإنساني، من القاع حيث الصوت الشجيّ، المنكسر والشاكي عند مستهل الأغنية، إلى القمة، حيث الصوت الصدّاح والممتلئ وجداً وسلواناً عند الذروة. كما تُجيد أيضاً الإمساك بالزمن الموسيقي، بغية تسخيره من أجل التأثير بالمستمع، فتتولّى هي بصورة مستترة دور القيادة الموسيقية، ولا يبقى لقائد الأوركسترا سوى مهمة التنسيق بين العازفين.

لأجل النفاذ إلى أعماق مستمعيها، بهدف خلق أشدّ تعاطفٍ بينهم وبين شخصية نورما التي تؤدّيها، تحوز كالاس تحكّماً منقطع النظير بما يُدعى ترجيف الصوت، أو هزّه، فيبراتو (Vibrato)، حيث تتموّج النغمة المُنطلقة من حنجرتها بإرادة شبه تامة، بين العريض المُنفرد ذي المسحة الميتافيزيقية والضيق المرتعش ذي الأثر الدرامي الانفعالي، تعكس بها التبدّلات النفسية والعاطفية التي تطرأ على الشخصية.

إضافة إلى التفوق في الأداء، ثمة أيضاً الجاذبية الفريدة لكالاس. سواء قُدِّمت الآريا مسرحيّاً ضمن عرضٍ كاملٍ للأوبرا بجميع فصولها، أو كمقتطف، على شكل مقطوعة موسيقية مُفردة بصحبة الأوركسترا أو آلة البيانو من دون ديكور، أزياء أو إمكانية الحركة على المسرح (ميزانسين)، تظل الديڤا تملك القدرة على جذب الأبصار إليها كما الآذان، وجعل الانتباه يتركّز عليها. لئن تلعب لغة الجسد، وإيماءات الوجه دوراً أساساً في تجسيد المشاعر والأحاسيس لدى المؤدي، فإن ديڤا مثل كالاس يكفيها أن تقف على الخشبة دون حراك، أو أن تخطو عليها دخولاً على الجمهور، لكي تصير على الفور قبلةً لنظر من حضر.

ثم أخذت جاذبيتها الخارقة للعادة تجتاز جدران المسارح ودور الأوبرا، وصولاً إلى واجهات محلّات الألبسة ودور الأزياء الفاخرة، خصوصاً في عقد الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، فأصبحت مثلاً يُحتذى بين نساء عصرها، في المظهر كما في المغنى. بات لديڤا الحقبة تأثيرٌ مباشرٌ على صناعة الموضة في أوروبا وأميركا. سواء من خلال استلهام التصاميم التاريخية التي حيكت لأجل أدوارها في العروض الأوبرالية، أو الموديلات التي ارتدتها خلال الحفلات الموسيقية والمناسبات العامة.

من أهم مصممي الأزياء الذين ألهمتهم الديڤا، وحظوا بشرف التصميم والحياكة لأجلها، فلعبوا دوراً في صناعة الطلّة الكالاسيّة كانت المصممة إلفيرا ليوناردي بويوري (Elvira Leonardi Bouyeure)، المعروفة باسمها التجاري BIKI. سنة 1951، كانت بويوري قد التقت بمغنية السوبرانو الأشهر على مائدة عشاء دعا إليها نجل قائد الأوركسترا الأسطوري أرتورو توسكانيني. ومُذّاك، بدأت مسيرة تعاون بين السيدتين دامت سنين طويلة. خلالها، صُمّم لديڤا العصر 24 معطفاً، 200 فستان، وقرابة 300 قبعة طبعت الذائقة العامة بختم كل من كالاس وبيكي.

وبعد مُضيّ أكثر من نصف قرن، في شهر يوليو/تموز من العام الحالي، أحيا مصمم الأزياء الفرنسي ستيفان رولاند (Stephane Rolland) عرضاً ضمن "أسبوع باريس للأزياء" لموسم خريف شتاء 2023-2024، خصّه بتكريم ذكرى لا ديڤينا في مئوية مولدها. من بين تصاميمه، رداءٌ سهرة من قماش الأورغانزا الحريري الشفاف، أطلق عليه اسم "كاستا ديڤا" تخليداً منه واستلهاماً للآريا التي اشتهرت كالاس بغنائها كشخصية نورما في أوبرا بيلّيني.

كان لتجاوزها حدود لقب ديڤا ضمن إطار الموسيقى والفنون والعبور به إلى الفضاء العام، جانب مظلم صامت. إذ تعد كالاس من بين الأوليات اللواتي عانيَن قيوداً على الحرية الشخصية بموجب تحولهن إلى أيقونات جماهيرية في عصر استهلاكي بات يقتضي تسليع المشاهير، خصوصاً الإناث منهم.

بهذا، ظلّت تخضع طيلة مسيرتها الفنية إلى ضغوطٍ متزايدة، تفرض عليها ضبط وزن جسمها، التزاماً بمعايير شكلية تُلبّي رغبات المُنتجين والمُستثمرين في قطاع الترفيه والإعلام. عن عرضه، صرّح رولاند لوكالة أسوشييتد برس: "إن التصميم بغرض تكريم ماريا كالاس، ينضوي على صعوبة ومسؤولية في آن معاً. لقد حاولت أن أستلهم قوتها، أنوثتها وحساسيتها.  كان عليها أن تكافح كثيراً في حياتها، لذا فقد وجَب أن تبقى قوية".

المساهمون