كوكب حمزة... عبور القنطرة الأخير

كوكب حمزة... عبور القنطرة الأخير

07 ابريل 2024
عُرفت ألحان حمزة من خلال صوت سعدون جابر (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- كوكب حمزة، الملحن العراقي المتواضع الذي توفي في 2024، اشتهر بابتعاده عن الأضواء وتفضيله للتعريف به كملحن فقط، معتبراً مسيرته في التلحين "ورطة" بدأت في 1969.
- علاقته بالمغني سعدون جابر أثمرت العديد من الأغاني الناجحة، لكنها انتهت بخلاف بسبب أغنية "هوى الناس" وحظر ألحان كوكب في العراق.
- اشتهر بأسلوبه التلحيني الفريد، مع التركيز على الصياغة الموسيقية والمقدمات الآلية، مثل في أغنية "القنطرة بعيدة" التي تعكس حساسيته وتراث العراق.

اتّسم الملحن العراقي كوكب حمزة (1944 - 2024) الذي رحل في الثاني من الشهر الحالي بتواضعٍ لافت، تحديداً بين أقرانه ونظرائه من الملحنين والمغنين، إلى حدٍّ نأى بشخصيته عن عالم الفن الجماهيري من أحاديث العلاقات العامة وإنارات الإعلام، ودنا بها أكثر من نورانيّة الزهّاد والمتصوّفة.

ففي مقابلة نادرة تعود إلى منتصف الثمانينيات، كان الفنان الراحل قد حذّر المذيعة والممثلة اللبنانية مادلين طبر من أنه لا يجيد الأداء، لا الغناء ولا حتى العزف على العود، وأصرّ على الاكتفاء بتقديمه ضمن ضيوف البرنامج كملحن.

حتى مسيرة التلحين اعتبرها ورطةً. خلال مقابلة أجرتها معه صحيفة "العراق اليوم" سنة 2021، يحكي كوكب حمزة عن البدايات، كيف أنه لم يكن ليخطر يوماً في باله أن يغدو ملحّناً، وأن زملاء له في المدرسة التي عُيّن فيها ذات مرة معلّماً للموسيقى في محافظة البصرة في العراق قد ألّحوا عليه، معتبرين أن كلّ من تخرّج من المعهد الموسيقي ينبغي أن يصبح في مقدوره التلحين. هكذا، وبمحض الصدفة، أو الورطة على حدّ تعبيره، وُلد لحنه الأول منذ أن سُجّل في الإذاعة سنة 1969.

لذلك، لم ينتظر أحد من صاحب لحن "الطيور الطايرة" أن يُقرّ بأنه، وبحسب مُوثّقين ومؤرّخين، هو الذي اكتشف المغنّي العراقي، ذائع الصيت زمنّ الثمانينيات والتسعينيات، سعدون جابر، وقدّمه على الساحة الفنية.

بعد أن تم التعارف بينهما بواسطة صديق مشترك، بدأ الاثنان بأواصر رابطة صداقة مثمرة ومسيرة تعاون مديد، تقوّت بفضل قضائهما فترةً من مهجرهما القسري معاً في سورية، فتمخّضت عن تلك العلاقة التشاركية عدة أغان، استمرت بالعيش طويلاً في الأذن الجمعية العربية، على الأخص في العراق ومنطقة الخليج العربي.
 
مع ذلك، انتهى بهما المطاف إلى الخلاف، كما روى سعدون جابر لوسائل الإعلام ذات مرّة. إذ لمّا كانت وزارة الثقافة العراقية بصدد افتتاح المسرح الوطني، طلبت من المطرب العراقي النجم أن يُقدم أغنيةً لأجل المناسبة، فأصرّ على تقديم أغنية "هوى الناس" التي كان كوكب قد وضع لها الألحان قبيل لجوئه إلى خارج العراق منتصف السبعينيات، وبما أن حظراً قد طاول في حينه جميع ألحانه، آثر سعدون أن يسجّل الأغنية باسم ملحّن آخر، الأمر الذي أثار عتب كوكب واستيائه، الذي دام مدة من الزمن.

قد ذكر سعدون أنه حين بدأت الفرقة بقيادة المايسترو العراقي حسن الشكرجي بقراءة نوتة "هوى الناس" لأول مرة، حزروا على الفور أن اللحن لكوكب حمزة، ولعل ذلك أكثر ما يُميّز المُلحّن الفنان.

ومهما اختلفت الآراء والأذواق حيال مؤلفات مُلحّن ما، ثمة دوماً ما يجمعها ويوحّد بينها، ألا وهي بصمته الخاصة به وحده، نتاج سيرته وتجربته ورؤياه، ونزوعه إلى تجسيد أناه في إبداعه والنأي عن تقمّص أنوات الآخرين بالاستيلاء على إنتاجاتهم، وإن ليس هناك ما يمنع في المحصلة من استلهامهم والاقتباس عنهم، بل إن ذلك سيُفيده ويُغنيه، ويزيد من تفرّده وتميّزه.
 
أكثر ما يُميّز "هوى الناس"، وبالتالي ما يُميّز أسلوب كوكب حمزة وشخصيته التلحينيّة، هو الاهتمام البالغ بالصياغة الموسيقية، أي كتابة الجمل اللحنية، لكي تُنفذّها الآلات منفردة أو مجتمعة من دون صوت المغنّي. غالباً ما يتضّح ذلك من خلال المقدمّات التي تسبق دخول الحنجرة حلبة الأغنية. إذ تحلّق الكمانات، بُعَيد فاتحة القانون في مدار المقام الرئيسي، ألا وهو الهزام، من دون أن تحط فيه.

وعلى الرغم من أن التحليق لن يدوم طويلاً، فإن كثافة التنقّلات المقامية لها أن تُحفّز الأذن بموجب عامل الترقّب والمفاجأة، ليخلق دخول إيقاع البلدي مرتكزاً على الهزام وعلى وقع صنوج الرق شعوراً بالألفة والراحة.

يتجلّى الاهتمام بالموسيقى الآلية في أغنية أطلقت العنان لتأولّات دلالاتها المرتبطة بـ كوكب حمزة كفنان عراقي تكثّف فيه، لفرط حساسيته، تاريخ العراق وتاريخ علاقته بأبنائه، ألا وهي "القنطرة بعيدة".

إلا أن الحضور الآلي ههنا قد انفرد به العود، ليُضاف دلالةً أخرى من بين عديد الدلالات، لا لشعريّته وحسب ولون صوته الميلانكولي، ولا لكونه الآلة الوحيدة، فيتماهى مع صورة الذات الوحيدة، وإنما أيضاً لجذوره الضاربة في أرض الرافدين منذ حضاراتها الأولى، مروراً بالعهد العباسي في العصور الوسطى، وصولاً إلى المدرسة الحيدرية، نسبة إلى الشريف محيي الدين حيدر، ومن ثم البشيرية، نسبة إلى كلّ من جميل ومنير بشير، أول القرن العشرين.
  
بحسب مقالة للكاتب سامر مشعل نُشرت في جريدة الصباح سنة 2019، فإن "القنطرة بعيدة" التي نظم لها الكلمات الشاعر ذياب كزار، المشهور بلقب "أبو سرحان"، قد ظلّت حبيسة الأدراج زمناً طويلاً، بعد أن تردد كوكب حمزة كثيراً إزاء عرضها على أيّ من نجوم الغناء المعاصرين زمنَ منتصف السبعينيات، علاوة على صعوبتها. يدل ذلك على خصوصية الأغنية لحناً وكلمة، والسمة الحميمية للصلة التي تصلها بالملحّن.

حتى صديق الدرب سعدون جابر، الذي سمعها وأحبها، لم يجرؤ على طلبها من كوكب حمزة، إلى أن شاءت الصدف ذات مرة أن كان يدندنها في أثناء مرور المُلحّن، الذي ما إن سمعه حتى سأله على الفور عما إذا كان بمقدوره غنائها، فامتلأ قلب سعدون فرحاً وحماسة.
  
يكاد لا يُشيّد كوكب حمزة أي عمارة شكليّة للقنطرة، بل يجعل من ذاته يُصاحبها عوده، تفيض موسيقى مُرسلة، تدور في مدار مقام البيات المرتبط دلاليّاً بجوف الليل، وكأني به يتلمّس بشعريّة صوفيّة صورة الجسر عند طلوع الفجر، بوصفه عبوراً نحو عبور، ومشياً عبثياً إلى سراب، إذ تقول الكلمات، على لسان الحبيبة : "وأمشي وأقول وصلت، والقنطرة بعيدة". وعليه، لا تلوح للأغنية نهاية ولا يَعِد المُلحّن المستمع بأي ختام، بل بدوام ترحال الروح من منفى إلى منفى، في بحث أزلي عن الوطن بين الأكفان.

المساهمون