صوت غزّة كما تُصدره مريم الخطيب

صوت غزّة كما تُصدره مريم الخطيب

01 مارس 2024
طفل يتفقد ما تبقى من المنزل (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
+ الخط -

"أصحابي اللي ماتوا دفنوا أحلامهم وأنا دفنت حلمي معاهم. ليش أحلم وأطمح إذا ممكن بثانية بموت وبروح كل التعب وكل التفكير".

هذه كلمات لطفلة من غزّة، في تسجيل صوتي على ساوند كلاود؛ هو عبارة عن نسيج من مقاطع صوتية متنوّعة من غزّة خلال عدوان الاحتلال الإسرائيلي الحالي. جزيئات صوتيّة بمونتاج حادّ يفصل ما بينها، فيتوقّف صوت أحدهم فجأة كأن مقصلة قد سقطت فوق الكلام، تماماً كحدّة العدوان إذ أوقف تدفّق الحياة العادية في غزّة، لتحلّ مكانها الفوضى والتشتّت والضياع.

نسمع صوت سيّدة مسنّة تشكو من ظلم الاحتلال، ودويّ القصف، وصوت رجل يحكي عن يومياته ما قبل الحرب، وصوت محمود درويش يقرأ "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وصوت غارة طيران إسرائيلي، وصوت الشيخ إمام في "شيّد قصورك"، وصوت شابة تقرأ نصاً وجدانياً، وهتافات أطفال وشبّان في تظاهرة تطالب بالعودة للبيوت: "بدنا نروّح عَ جباليا! بدنا نروّح عَ بيت لاهيا!"، وغيرها من أصوات الفلسطينيين، فيما طنين المسيّرة الإسرائيلية يرافق تلك الأصوات في مجملها.

تجمع كل تلك الأصوات مريم الخطيب، وهي شابّة من غزّة كانت قبل الحرب تتابع دراستها في الطب البشري، وتوفّق ما بين ذلك وبين دراستها لنظريات الموسيقى وعزف العود.

ما قبل العدوان، كانت مريم الخطيب تنشط ككاتبة وشاعرة في عدّة مبادرات وفعاليات أدبية، من خلال عدّة جمعيات ثقافية فلسطينية كمؤسسة القطان ومؤسسة تامر وغيرها. وسط كل ذلك، كان لديها هوس كبير بالصوت كمادة وظاهرة فيزيائية، فتسعى دوماً إلى تسجيل أصوات محيطها بهاتفها الجوّال، قبل أن تجمعها كمسلسلات عشوائية تشاركها على الإنترنت.

خسرت مريم الخطيب كل تلك التسجيلات حين حُظر حسابها على ساوند كلاود بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزّة: "أنا أهتم بالصوت لأن صوتنا في غزة غير مسموع، كأنما محاط بالغبش دائماً".

قبل العدوان، كانت توثّق الأصوات في محيطها؛ صوت موج البحر، وأصوات أصدقائها يقرؤون الشعر، وصوت سائق سيارة الأجرة في حديثه مع الزبائن، وصوت فيروز من راديو سيارته، وأحاديث مع كبار السنّ أو الأطفال، وصوت من جلسة درس العود، وصوت شخص يصف كيف زرع شجرة، وأحيانا صوت الهواء.

"أريد أن أسمع ما حولي"، تتابع مريم "هذه تفاصيل من الصعب الالتفات إليها وسط الصراعات التي نعيشها في غزة. فحتى ما قبل العدوان، كانت لدينا صراعات مع أنفسنا، مع الحياة مع الوضع الاجتماعي. لذلك كنت أهتم بحفظ أكبر قدر من الأصوات من محيطي".

تعزو مريم الخطيب اهتمامها بالصوت لأيام تدريبات تنمية المواهب التي كانت تشارك بها منذ طفولتها في مؤسسات ثقافية في غزة. إحدى المدرّبات كانت الفنانة المسرحية إيناس السقّا التي استشهدت مع بداية العدوان الحالي. تستذكرها مريم وهي تقول لها ولرفاقها: "اسمعوا صوتكم الداخلي لكي تسمعوا صوت العالم".

أمّا اليوم، بعد أشهر من العدوان؛ فتقول إنها نسيت ما كانت عليه ما قبل كل هذا العنف، لكنّها لا تتخلّى عن هاجسها بعلم الصوت. تطوّع ذلك الهاجس ليصير ملائماً لحالة الحرب وليس حالة السلم فقط. "الصوت هو أكثر ما يخيفنا في الحرب. أبي يقول لي دوما إننا إذا سمعنا صوت الصاروخ فذلك يعني أننا نجونا. من يفقد حياته في القصف لا يسمع صوت القذيقة التي أصابته".

اليوم تدأب مريم الخطيب على حفظ الأصوات وهي ما زالت محاصرة كسائر فلسطينيي غزّة في القطاع المنكوب، وعادت لتفعيل صفحتها على ساوند كلاود لرفع تسجيلاتها الجديدة علّ العالم يسمع. كما أتى على لسان الطفلة ذاتها المذكورة في بداية هذا المقال: "أنا بحكي مع طيري لأن يمكن هو يفهمني، لأن العالم كلّه ما فهمني".

المساهمون