تمزيق لوحة بلفور... وعدٌ آخر بالتخريب

تمزيق لوحة بلفور... وعدٌ آخر بالتخريب

11 مارس 2024
ناشطة بريطانية تتلف لوحة بورتريه للورد بلفور تضامناً مع فلسطين (إكس)
+ الخط -

تزامن يوم المرأة العالمي الذي تعيشه الفلسطينيات في قطاع غزّة في ظل المجاعة والإبادة، مع قيام ناشطة برشّ دهان أحمر اللون على لوحة للورد آرثر بلفور، ثم تمزيقها بالسكين. اللوحة المعلقة في جامعة كامبريدج في بريطانيا، أقرب إلى بورتريه لصاحب الوعد المشؤوم الذي قُدّم للزعيم الصهيونيّ،  ليونيل والتر روتشيلد، في عام 1917، والذي ينص على منح اليهود "وطناً" في فلسطين.
أُرفق الفيديو لعملية الاحتجاج/التخريب بعبارة "إعلان بلفور كان بداية التطهير العرقي في فلسطين عبر الوعد بمنح الأرض، الأمر الذي لم يكن لبريطانيا حقّ بالقيام به". هذه العبارات ليست جديدة، ولا يهمنا حقيقة نقاش أحقية الوعد أو قانونيته، خصوصاً الآن في ظل الإبادة الجماعية العلنيّة للفلسطينيين في قطاع غزة. ما يهم هو تدمير الرموز، ولو كانت تقبع تحت مُسمى "فن".
اللوحة التي أنجزها الهنغاري Philip Alexius de László في عام 1914، لا تختلف عن البورتريهات التي كانت منتشرة في تلك الحقبة. بورتريهات تختزل المكانة التي يمتلكها صاحبها (رئيس الوزراء بِلفور) عبر التلاعب بمكونات اللوحة، كالتحديق بعيداً والشال الأحمر المحيط بجسده والكتاب المفتوح الغامض.
ما يهم هو فعل التخريب نفسه، الذي يستهدف صورة لشخصية سياسيّة، خُرّبت احتجاجاً على وعد غير قانوني، وتسبب بـ"تطهير عرقي"، ما يعيدنا إلى النقاش حول تمثيلات الشخصيات التاريخيّة والحق باستعراضها أو الحفاظ عليها، كما في الولايات المتحدة الأميركية، حيث استهدفت تماثيل العديد من قادة الكونفدرالية أنصار العبوديّة وملاك العبيد، ووصل الأمر إلى تخريب تماثيل كريستوفر كولومبوس بوصفه تسبّب بارتكاب إبادة جماعية بحق السكان الأصليين، ما أشعل الجدل حول ضرورة الحفاظ على الرموز التاريخية، وليس حماية الأعمال الفنيّة.
تخريب الأعمال الفنية احتجاجاً على قضايا متعددة ليس جديداً، سواء كان الحديث عن المناخ أو الطعام الصحي أو استخدام الوقود الأحفوري. وفي كل مرة، نرى أنفسنا أمام ترِند ينتهي بعد يوم على الأكثر. وعلى الرغم من أن تخريب بورترية بلفور لم يغير أي شيء من العدوان على قطاع غزّة، لكن هناك قيمة رمزية مختلفة عن أعمال التخريب الأخرى.
المشهد كالآتي: ناشطة في يوم المرأة، خربت لوحة لسياسي قدّم وعداً ليس قانونيّاً، نتج عنه تطهير عرقي ممتد لسنوات طويلة. الأذيّة الفنية هنا ذات قيمة رمزية مشابهة لقيمة اللوحة التي تحتفي بالسياسيّ، تلك التي لا رهان على المال فيها كونها موجودة في جامعة. البادرة هنا شديدة الرمزيّة، ولا يمكن القول إنها مشابهة لتلطيخ الموناليزا المحمية وراء الزجاج المضاد للرصاص.
نميل إلى الظن أن هذا النوع من اللوحات، خصوصاً البورتريه ذات الطابع السياسي، وهو نوعاً ما تجاري، ليس نتاج "عبقرية" الفنان، بل مُكلف بإنجاز اللوحة. وتمتلك هذه قيمة مشابهة لقيمة البوسترات السياسية، تلك التي تتعرض للتخريب والتمزيق بصورة دائمة، كحال صورة أي سياسيّ أو مرشّح للانتخابات في أي مكان في العالم، والاحتفاء بها لا ينبع من قيمتها الفنيّة، بل من الثقل السياسي للشخصية نفسها.
مفارقة أخرى لا بد من الإشارة إليها، تتمثّل في أن التخريب هنا لا يمس قضية شديدة العموميّة كأزمة المناخ، بل هدفاً محدداً وشخصيةً محددة. الأمر مشابه لما تعرضت له الإسرائيلية زويا تشيركاسكي (Zoya Cherkassky) من احتجاج وتعطيل لندوة أدارتها في نيويورك عن مجموعتها التي تحمل اسم "7 أكتوبر - 2023"، والتي تصور ما تعرض له الإسرائيليون إثر هجمات حماس، إذ علا صوت المحتجين وأنصار الحق الفلسطيني متهمين إياها بممارسة "البروباغندا الإمبرياليّة"، وتجاهل ما يتعرض له قطاع غزّة من إبادة، ما يؤكد أن الاحتجاج ضد العمل الفني إن كان في لحظة مناسبة، فهو بحد ذاته يمثّل قيمة لا تختلف عن قيمة العمل نفسه، لتتحول اللوحة إلى مساحة للصراع السياسيّ، سواء رُسمت بعد أسبوع أو أكثر من طوفان الأقصى، كحالة لوحات زويا، أو قبل 100 عام.

المساهمون