تدمير بيت السقا... الاحتلال ينتقم من تاريخ غزة المعماريّ

تدمير بيت السقا... الاحتلال ينتقم من تاريخ غزة المعماريّ

27 نوفمبر 2023
في السنوات الأخيرة تحوّل إلى مساحة للفعاليات الثقافية والمجتمعية (عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -

في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، كتب الأستاذ المشارك في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت أباهر السقا: "بيت السقا، أو كما يسمّيه الناس قصر السقا، ويقع في حي الشجاعية في مدينة غزة، بُني في نهاية الفترة العثمانية في عهد السلطان محمد الرابع، بناه ابن عم جدي المرحوم أحمد السقا، من كبار تجار المدينة. أسواره مرصّعة بالأحجار الرملية والأسقف الرخامية الرومانية، عمره 350 عاماً، وخصصته العائلة ليتحول إلى مركز ثقافي بعدما رمّمته الجامعة الإسلامية، وتم قصفه ضمن القصف الاستعماري الوحشي... تقوم سلطات الاستعمار بإبادة التاريخ الحضري والمعماري للمدينة، بالتوازي مع الإبادة الجماعية".
منشور السقا جاء بعد قصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي لبيت السقا التاريخي، وهو ما أكدته وزارة الثقافة الفلسطينية عبر صفحتها الرسمية في "فيسبوك".
ولفت مركز المعمار الشعبي الفلسطيني "رواق" ومقره مدينة البيرة في الضفة الغربية (وكان شارك في ترميم بيت السقا مع  مركز إيوان التابع للجامعة الإسلامية في غزة) في منشور حديث إلى أن البيت قُصف بشكل كامل في التاسع من نوفمبر 2023، حسب آسر السقا أحد أفراد العائلة المالكة للمبنى التاريخي الذي يقع في حي الشجاعية في مدينة غزة، وتم ترميمه بالشراكة ما بين عائلة السقا و"إيوان" و"رواق" عام 2013، ليبقى "شاهداً على تاريخ غزة عامة، والحي الذي هو فيه خاصة، ومركزاً للثقافة، ومساحة آمنة للفلسطينيين في غزة".
المدير السابق والمستشار الحالي لـ"رواق" خلدون بشارة، وهو مهندس معماري ومرمّم وأنثروبولوجي كان من فريق ترميم بيت السقا، أشار لـ"العربي الجديد"، إلى أن "ترميم البيت كان من أوائل مشاريع مركز رواق في قطاع غزة، وانطلق بالشراكة مع  مركز إيوان في الجامعة الإسلامية عام 2012، وأنجز عام 2013، وهو واحد من بين 400 بيت تاريخي في القطاع، جلها في أحياء مدينة غزة، وعدد قليل منها في خانيونس ودير البلح... كان مركز إيوان استأجر المبنى، وقمنا بترميمه من خلال أحد برامجنا، ومن ثم تم تأجيره عبر (إيوان) لمؤسسات ومجموعات ومبادرات مجتمعية وثقافية".
ولفت بشارة إلى أن المبنى الذي يكاد يكون فريداً من نوعه معمارياً في قطاع غزة بأكمله، تبلغ مساحته 700 متر مربع في طابقين، وقد كلفت عملية ترميمه قرابة مائة ألف دولار أميركي، وهو مبلغ رمزي نسبياً قياساً إلى ترميم مبنى بذات المواصفات، إن وجد، في الضفة الغربية. وأضاف "على الرغم من إهماله لعشرات السنوات، إلا أن حالته الإنشائية لم تكن سيئة، وهو ما لمسته بنفسه، وشاهدته بأم عيني، حيث كنت في غزة لسبع مرّات قبل وخلال فترة الترميم، المبنى كان خالياً من الانهيارات، ويعاني من تلف وخلل في البنية التحتية وإضافات ليست له، وقد عالجنا ذلك بشكل كامل، فقمنا بإعداد الرسومات الهندسية للترميم بناء على المواد المتوفرة في غزة، وعدّلنا على الرسومات الأولى بما أن الحفاظ عليها كان يتطلب مواد غير متوفرة في قطاع غزة المحاصر".
وأكد بشارة لـ"العربي الجديد" أن بيت السقا بني قبل 350 إلى 400 عام، من عقود وجدران حجرية ضخمة، وفيه رخام أيضاً، وهذا أمر نادر في غزة في ذلك الوقت، ويعكس طبيعة الأوضاع الاقتصادية المُرفهة للأسرة التي كانت تملكه، وهي واحدة من العائلات الشهيرة في قطاع غزة تاريخياً، فباني البيت هو أحمد السقا، أحد أكبر تجار المدينة في ذلك الوقت.
البيت مكوّن من طابقين، الأرضي يضمّ غرفة للضيوف، ومطبخاً، ومراحيض، وحوشين كبيرين، ودرجا هو عبارة عن درجين أحدهما يؤدي إلى الجهة اليمنى من الطابق العلوي، والثاني إلى الجهة اليسرى منه، ولكل غرفة "إيوان"، بمعنى أنها مغلقة من ثلاث جهات ومفتوحة بقوس من الجهة الرابعة على حوش، ما يجعل ساكنيها يستمتعون بالمشهد العام من دون معاناة من الحرارة العالية أو المتدنية، وللحفاظ على ما تحتاجه الغرف من أشعة شمس وتهوئة.
وبيت السقا الذي وصفه بشارة بـ"النخبوي" بات "منذ ترميمه، مساحة للمعارض والفعاليات الثقافية والمجتمعية، ومقهى، بعد إهدائه من قبل عائلة السقا لأهل قطاع غزة عامة، وأهل مدينة غزة خاصة، كمركز للثقافة وحفظ التراث الفلسطيني، من خلال احتضانه مشاريع دعم الفنانين والمؤسسات، وما يقدمونه من إبداعات، وإتاحة عرض المشاريع والمعارض الثقافية المختلفة". وخلال السنوات السالقة تحوّل البيت إلى واحد من أهم المراكز الثقافية في المدينة. وحتى مع التهديد المستمر بالقصف والإغلاق، بقي بيت السقا نابضاً بالحياة، ومساحة للإبداع، والراحة والترفيه في ظل الأوقات والظروف الصعبة حتى قصفه في التاسع من الشهر الحالي.

من جهته، كشف أباهر السقا لـ"العربي الجديد" أنه زار البيت في مايو/أيار من العام الماضي، و"أبهرني بكل تفاصيله، مع أنني لا أرتبط بعلاقة مباشرة معه، إذ لم يكن قد رُمّم قبل مغادرتي قطاع غزة، لكن لا شك أن للبيت رمزيات على أكثر من صعيد: فهو يقع بين العديد من بيوت العائلات الغزية العريقة في حي الشجاعية في مدينة غزة، وجزء كبير منها تدمر في الحرب العالمية الأولى عامي 1916 و1917، ولم يتبقّ إلا مجموعة صغيرة من البيوت القديمة من بينها بيت السقا، المبني من الحجر الرملي الذي تتميز به المدن الساحلية، ويختلف معمارياً عن بيوت الحجر في الضفة الغربية وشمال فلسطين. وهو معمارياً ينتمي إلى طراز لم يعد قائماً في قطاع غزة، علاوة على طريقة تقسيم البيت من الداخل... فكان أشبه بديوان للعائلة أحياناً، لكنه في الأساس مكان تجمع لكبار تجار غزة، وأحدهم مالكه الأول أحمد السقا، إذ كان بمثابة صالون تجار غزة، وإن بشكل غير رسمي". 
وفي حديثه شرح السقا أن البيت "أهمل لعشرات السنوات بعد وفاة بانيه، وبعدما أدرك ورثته تراجع حي الشجاعية اقتصادياً واجتماعياً في المشهد الغزي، إذ بات في قلب سوق شعبية. ومع الوقت قدّمه الورثة الأحفاد إلى مركز إيوان في غزة الذي رممه بالشراكة مع مركز رواق في البيرة. ومع الوقت بات مركزاً ثقافياً مهماً، وأعاد الحياة الثقافية لحي الشجاعية في مدينة غزة، وبالتالي تدميره يشكل خسارة كبيرة لجزء مهم من تاريخ غزة المعماري، والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، والحضاري".
رغم الأضرار الكبيرة في المبنى، إذ هدمت أجزاء كبيرة منه، فإنّ خلدون بشارة، ومن خلال تجربته في العمل على ترميم بيت السقا سابقاً، شدد لـ"العربي الجديد" على أن لا "مستحيل" في قاموس أهل غزة، فـ"ما دامت الأساسات موجودة، والمخططات بحوزتنا في مركز رواق، فأنا على يقين، انه سيعاد بناء بيت السقا، كما الكثير من البيوت التاريخية وغير التاريخية هناك".

المساهمون