"بوزيشنز" لـ آريانا غراندي... في البيت الأبيض على دراجة رياضية ثابتة

14 ديسمبر 2020
ظلت غراندي حبيسة قالب البوب النيكوليديونية الكلاسيكي المعلّب (Getty)
+ الخط -

في الفيديو المصور لأغنية "بوزيشنز" Positions، التي عُنون بها الألبوم الحديث لنجمة البوب الأميركية آريانا غراندي Ariana Grande، تظهر ذات السابعة والعشرين عاماً سيّدةً للبيت الأبيض في سيناريو متخيّل، لا تلبث فيه أن تُغيّر المواضع بتبدّل المشاهد، وذلك من ظهورها رئيسةً للبلاد، مروراً بامتطائها درّاجة رياضية منزلية ثابتة، وصولاً إلى مشهدٍ تُعد فيه العشاء لزوج أو حبيب أو عائلة. كما تسرد كلمات الأغنية في مقطعها الثاني: "لأجلك، أغيّر المواضع. أطهو في المطبخ، أقبع في غرفة النوم. في النادي أتدرب، أقفز عبر الأطواق. اعلم، حبّي أزليٌّ، ليس من شيء لن أفعله، هذا ما لن أفعله، أن أتغيّر من أجلك".

كثيرة هي، إذن، المواضع التي سعت غراندي إلى تغييرها عبر إصدارها الأخير؛ ليأتي عنوان الألبوم Positions، أي وضعيات، اسماً على مُسمّى؛ إذ إن المغنية الشابة ذات الذكاء الخاطف والجاذبية الساحرة والمقدرة الصوتية الفائقة، كانت قد صعدت درجات الشهرة أوّل الألفية كواحدة من بين "النجوم النيكيلوديّين"، وأولئك هم نخبة مصطفاة من مواهب يافعة تألّقت بالرقص والغناء عبر قناة ديزني للأطفال "نيكوليديون" Nickelodeon.

صعود جعل من غراندي حلقة وصل بين نجوم جيل سبق عاصر أيقونة الآر- أند- بي R&B ماريا كيري Mariah Carey، وبين جيل الألفية من الميلينياليين الأصغر سناً، والأكثر تلوناً وانعتاقاً من الحدود التي ظلت تفصل بين الأجناس والأساليب الموسيقية والغنائية أيام ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

لذا، دأبت غراندي في إصداراتها الأربعة السابقة لألبومها ما قبل الأخير Thank u, next على الحفاظ على لون الآر- أند- بي بتحديّاته التقنية التي طالما ارتقت إليها حبالها الصوتية، ومن ثم تحديثه، عبر تخفيفه وتلطيفه من خلال تطعيمه بعناصر الرقة وعذوبة تارة، وتحريكه بإيقاعات الهيب هوب الحيوية تارة أخرى.

في "بوزيشينز"، تُعيد غراندي التموضع جهة الآر- أند - بي. يتجلى ذلك بوضوح في خاتمة أغاني الألبوم POV، مُعيدةً أصداء البدايات مع أول الإصدارات، وهو ألبوم Yours Truly سنة 2013 ، وإن أتى لون الآر-أند-بي الجديد الخاص بـ "بوزيشنز" أقرب إلى أفريكانية نجوم النيو- سول Neo Soul المعاصرين، كـ كيلاني Kehlani وريهانا Rihana. 

قد يكون لهكذا تموضع فني غنائي صدى سياسي يتعلق بالتحولات التاريخية الصاخبة التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية. فالألبوم الحديث كان قد رُفع على منصات التحميل بضعةَ أشهر قبيل الانتخابات الرئاسية التي انتهت بتوقع فوز المُرشح عن الحزب الديمقراطي نائب الرئيس الأسبق جو بايدن، على غريمه الرئيس الحالي الجمهوري دونالد ترامب. وكأن غراندي بألبومها تُعلن عن تموضعها السياسي موسيقياً على يسار الاستقطاب المُحتدم. حالها حال مُعظم نجوم الموسيقى والدراما.

في حوارٍ لها مع صاحب برنامج البث الرقمي الأميركي Podcast الخاص بنجوم الفن الشباب الـ "زاك شانغ شو" Zach Shang Show، تُعلّق غراندي على تمثيلها دور رئيسة الولايات المُتحدة في فيديو الكليب الخاص بأغنية "بوزيشنز" قائلة: "قد آن الأوان لئلّا تبقى إدارة البيت الأبيض حكراً على رجال بيض مُسنين من غير المثليين".

أضف إلى ذلك، أنها ومن خلال إحدى لقطات الفيديو وهي تُقلّد أوسمةً ذهبية لموظفي البريد، إنما تُرسل برسائل مباشرة تُشجع بها عامة الشعب على اعتماد التصويت عن طريق الإرسال البريدي، الأمر الذي عارضته إدارة الرئيس ترامب، فيما دعت له وحضت عليه حملة نائب الرئيس الأسبق جو بايدن، بوصفها وسيلةً تكفل أكبر قدر من المشاركة، خصوصاً من قبل شرائح الناخب الديمقراطي، في ظل الخوف من ارتياد مراكز الاقتراع وذلك بسبب الخشية من العدوى بفيروس كوفيد - 19. 

بل إن إعادة تموضع غراندي فنياً جهة الآر-أند-بي قد تُقرأ أيضاً، في ضوء الجدلية الاجتماعية المُتمخّضة عن، والمؤثرة في السجال السياسي الدائر في الساحة الداخلية الأميركية. فالآر-أند-بي هو النبرة العالية والروح الجمالية الصافية للثقافة السوداء الأفرو- أميركية. وعليه، فإن غراندي من خلال خيارها الفني بالعودة إليه، هي كمن تؤازر، أو تُغازل الحراك المدني الذي انطلق عشية مقتل المواطن الأفرو-أميركي جورج فلويد على يد رجال الشرطة، وبتعبئة من حركة الحقوق المدنية المعروفة بـ "حياة الأفارقة السود تهمّنا" Black Lives Matter؛ وكأني بـ غراندي ترى الآر-أند-بي، إزاء اللحظة الراهنة، بمثابة الخيار غنائي المُحتكم إلى مبدأ الصواب السياسي Political Correctness.

تموضعٌ فنّي آخر وجهته الجمع بين أقاصي الأضداد بغية الوصل، على الأرجح، بين جيل العشرية الأولى والثانية من الألفية الثالثة. فلئن نجحت غراندي منذ البداية في إضفاء سماتها الشخصية الخاصة على إنتاجها الفني، كالغناء بالهمس والبوح وذلك مع الحفاظ على مكامن القوة الصوتية لديها، إلا أنها ظلت حبيسة قالب مغنية البوب النيكوليديونية الكلاسيكي المعولب، والصبياني. 

في هذا الإصدار، وكما في ذاك الذي سبقه أيضاً Thank You Next، تسمع غراندي كمن يعمد إلى كسر ذلك القالب التسويقي، وإن من دون نزعه تماماً. بهذا، تسمع في أغانٍ كـ 34+35 خيوطاً لحنية من نَسج الوتريات تُذكّر بحلاوة عوالم ديزني، يقابلها، ويناقضها نظم من كلمات إباحية تصل أحياناً إلى قاع الابتذال.

أما أغنية "اصمت" Shut Up، فاتحة الألبوم وأروع ما فيه، فهي كمن يحاول عبر مقاطع موسيقية تُذكّر بالأسلوب المينيمالي المعاصر، الاقتراب من عوالم غرائبية لنجوم أصغر سناً، وأكثر حداثة كـ بيلي آيليش Billie Eilish، من دون أن يُفقدها ذلك بالضرورة روح الآر-أند-بي وصفير صوت ماريا كيري. كلمة "بوزيشنز" Positions الإنكليزية حمالة معانٍ وأوجه متعددة؛ إذ إنها، من جهة، تعني المركز والمنزلة الاجتماعية، وقد تُشير إلى المنصب أو الموقف السياسي، وصولاً إلى الوضعية الغرامية. ألبوم "بوزيشنز" لـ آريانا غراندي هو أشبه بمركب للمرور عبر كل تلك المعاني.

بذلك، هو أقرب إلى أن يكون تموضعاً من كونه موضعاً ثابتاً وراسخاً؛ حركة دؤوبة ونشطة لفنانة موهوبة وحذقة تحاول الاستفادة من أدوات العصر والاستجابة لمتطلبات المرحلة الفنية والحالة الاجتماعية؛ إنه بمثابة تموضع نجمة يافعة نحو فضاء النضج.

المساهمون