"بانِل وأداما": إخراجٌ آسر لكنْ مع شيءٍ من مَلل

"بانِل وأداما": إخراجٌ آسر لكنْ مع شيءٍ من مَلل

14 يونيو 2023
"بانِل وأداما": حبّ غامر يُبرز إشارات وإيحاءات (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

هو يعرف الحكي مع الحوريات، وهي تعرف الحبّ كما يليق بامرأة أن تفعل. في زمن كان أفضل الأزمنة، اجتمعت بانِل (كادي مان) مع أداما (مامادو ديالّو)، في قصة حبّ غير عادية، شاعرية وأنانية. حين تغمض عينيها، ترى نجوماً، وتسمع أصواتاً تردّد "بانِل وأداما". هو يقصّ عليها حكايات الأجداد، أساطير تغرق في غموض ورموز. يسبحان في النهر. يرعيان الأبقار. يحفران في الرمال بحثاً عن بيوت انطمرت في الماضي السحيق. هي لا تكفّ عن خطّ اسميهما، في أسطر متتالية، على ورقة بيضاء، تردّدهما شفاهاً وفي داخلها. لكنّ أفضل الأزمنة لا بدّ أنْ ينتهي، والنجوم أنْ تختفي، والنيران أنْ تشتعل.

"بانِل وأداما" (2023) أول فيلم للسنغالية الفرنسية راماتا تولاييه سي، المشارك في مسابقة الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي. كأنه وليدٌ يطلّ على عالم الكبار، بكلّ ما يبعثه من بهجة وجمال، وسحر وقلق، وإعجاب وغموض. هذا المخلوق الصغير يعلن عن وجوده وطزاجته وقلقه على عالم يتفكّك. تختار صانعته شاعرية آسرة لتروي الواقعة حين تقع، وتختمها على لسان بطلتها بقولٍ كأنه يعد بفوات الأوان: "أمام عينيّ يتفكّك العالم".

مثيرٌة للإعجاب رواية العالم المعاصر بأسلوبٍ مغاير، ورواية مصير لا بدّ أنه مُقبل، بعد أن ولّى أفضل الأزمنة. زمن كانت فيه قرية في قلب الصحراء السنغالية تعيش شيئاً من هناء وحبّ، يتكاتف أفرادها في تنظيم جماعي. يدفعون ثمناً لهنائهم وبعض رخائهم باحترام تقاليد تحكم القرية من أزمنة. النساء يزرعن أراضي، والرجال يرعون أبقاراً، والأطفال يتعلمون في الكُتّاب تحت شمسٍ، يعمي سطوعها الأنظار، وُيشتّت العقول.

يبدأ الفيلم بهذا الحبّ الغامر بين بانِل وأداما. حبّ فعلتْ بانِل ما لا يمكن تخيّله لتكريسه زواجاً. قالت ذلك لأداما بعبارة غامضة، لا يشي الفيلم صراحةً بمكنونها. لكن، تخميناً: هل قتلت زوجها (أخيه) لتحظى به (أداما) أخيراً؟

سردٌ يعتمد غموضاً ورموزاً وإشارات وإيحاءات، تضفي على الفيلم سحراً خاصاً يتناسب مع أجواء الأمكنة. كلامٌ عن لعنة تحلّ على من يحيد، وعن عالم أناني سينتهي بالدمار، وعن الذي يحاول الذهاب عكس الأقدار. شغف بانِل بأداما هوسٌ. شخصيتها مرسومة بعمق ودراية بالنفس البشرية، بتناقضاتها وتمرّدها وجنونها، وبتأرجحها بين رقةٍ مع الحبيب، وعدوانيةٍ مع الآخرين جميعاً، من دون استثناء، حتى لو أحبّتهم كأمّها وأخيها التوأم، الذي أُوتي الحكمة التي جانَبَتها. لا تريد مصير غيرها، هذه الحياة الجماعية، حيث الخاص عام. تنفر من انشغال بالزراعة، عمل النساء الذي يُبعدها عن أداما الراعي. يعتني الفيلم بإبراز سعادتهما بأسلوب كأنه ينبئ بزوالها قريباً. يستعين بمؤثرات فعّالة، من موسيقى مقلقة وإضاءة مبهرة. يُبدي حبّهما كأنهما عاشقان يهربان من أنظار الآخرين. يُظهر رغبتها في تملّكه، بعيداً عن الأهل. تُقنعه، أو يقتنع بمفرده، أن لا رغبة له في استلام زعامة القرية بعد موت أبيه. يودّان العيش خارجها، حيث لا عمارة ولا حياة. يحفران الرمال بعزيمةٍ جبّارة، كأنهما يبحثان عن خبيئة، رغم تحذيرات بعدم مناسبة المكان الغامض، الواقع على أطراف الصحراء. لكنها مُصرّة. أنانيةٌ في إصرارها ونظراتها ومشيتها وحركاتها. كلّها تشي بأنها مسكونة بعنادٍ، وشيء من جنون.

 

 

مشاهد تؤكد هذا من دون قوله. استعمال بانِل المتكرر لـ"النقيفة" لقتل العصافير والسحليات مفزعٌ بهذه اللإرادة التي تحاول معاكسة القدر. هي قرّرتْ أقدارها، كما ستقرّر قدرها. لكنّ الجماعة ستقاوم رغباتها وأحلامها، والطبيعة ستقف بوجهها. اللعنة ستحلّ على القرية: جفاف واحتباس أمطار ونفوق حيوانات. لم يحصل هذا في القرية من قبل. أداما قلق على مصير الآخرين، وعليه قبول الزعامة وعدم مخالفة التقاليد. الحبّ بات في درجة تالية. أهذه لعنة حقاً؟ لماذا يتغيّر الطقس هكذا؟ يسأل أداما حكيماً. "الناس هم من يتغيّرون"، يردّ. الإنسان دمّر الكون، والفقير أول الضحايا.

يا لهذا الإخراج الآسر. لكن، ليس من دون شيء من تململ أحياناً، مع تكرار أقوال وأفعال السحر، ينتهي بأن يفرض نفسه، أكان نابعاً من جمالٍ، كهذه القرية الطينية التي تضيئها شمس لا تغيب، وتعبرها ريحٌ شديدة؛ أو هذه الأرض المزروعة، والنساء موزّعات فيها، يعملن كأنها لوحة تشكيلية؛ أو كأن سحراً منبعثاً من قسوة تثير اضطراباً، كما يفعل السحر تماماً، كمنظر هذه الأبقار النافقة المرمية، التي تنذر بمصير قاتم. التصوير بديع. الجماليات مذهلة، ليس فقط للطبيعة، بل لتعابير الحبّ عندما يَحِنُّ، وعندما يقسو. ولهذه العاصفة الرملية الهائلة، التي أخذته في هبوبها.

ماذا يقال عن أداء ممثلين ليسوا ممثلين؟ إنّه كما يجب أن يكون. لكلّ من ظهر، ولو للحظة، على الشاشة. الهيبة والقامات المشدودة التي تخرق الشاشة بحضورها، تعطي للشخصيات نكهة خاصة مميزة. الرزانة والحكمة لأداما. التعابير المتغيرة على وجهٍ ساحرٍ لبانِل، كأنها طفلة عنيدة متمردة، لا تقيس تمردها ولا تفصّله على ما يحيط بها. شخصية أسطورية تعيش التناقضات، وتطرح تساؤلات عن عالم مثالي، الطريق إليه شاقّة.

في قريةٍ صغيرة، تقول الحكاية، كنا أسياد العالم، وأحراراً. ماذا نحن اليوم؟ لا يتعلق الأمر بالعودة إلى الماضي الأسطوري، الذي لم يكن موجوداً (أقلّه في عُرْفِ بانِل)، بل ببناء طريق لتحرير النفس من وطأة الجماعة، وإن مَحته الرياح يوماً. في محليته، المرتبكة عالميته أحياناً. في تناقضات نصّه بين انتقاد التقاليد وانبهار بها، وبين تمرد المرأة ومعاقبتها عليه، وبين إحالة إلى الأسطورة (اللعنة) والواقع (التغيّر المناخي).

يعطي "بانِل وأداما" صورة سحرية عن واقعٍ متأرجح لإنسان مرتبك وعاجز أمام الطبيعة، وثقل التقاليد.

المساهمون