المغنية زارسانغا... ابنة البشتون المنسية في خيمة

المغنية زارسانغا... ابنة البشتون المنسية في خيمة

19 أكتوبر 2022
المغنية زارسانغا وفرقتها في لندن 1991 (فيسبوك)
+ الخط -

بعد أحداث سبتمبر/أيلول عام 2001، تعرضت المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان، التي تقطنها القبائل البشتونية، إلى موجة من مظاهر التسلح غير المسبوقة، ما ألقى بظلاله على كافة قطاعات الحياة، خاصة على قطاع الفن والطرب والغناء، وذلك في ظل ظهور الكثير من الجماعات المسلحة التي لم يكن هدفها معارضة الوجود الأجنبي ومحاربة الحكومات فحسب، بل أيضا "الاهتمام" بما في شؤون الشعب، ومنعه بقوة السلاح من كل ما كانوا يتصورونه غير شرعي. كما كانت الأعراف السائدة في قبائل البشتون، قبل ذلك، العقبة الأساسية والكبيرة في وجه تطور الفن والطرب.
رغم كل ذلك، باتت القبائل تهتم بالفن والطرب، خاصة الشعبي والوطني. كما بات المطربون الشعبيون يظهرون، بين الحين والآخر، ويشفون غليل أجيال القبائل المختلفة عبر أغان وطنية وشعبية. لكنهم في السنوات الأخيرة، أضحوا يعيشون ظروفاً صعبة للغاية، ليس من الناحية الأمنية فحسب، بل أيضاً من الناحية الاجتماعية؛ إذ لا ينظر كثيرون لهم بنظرة حسنة. فوق كل ذلك، ضاعف الوضع المعيشي والاقتصادي الصعب معاناة المغنين، علاوة على التهميش الحكومي المتواصل لقبائل البشتون بشكل عام، والمطربين الشعبيين على وجه الخصوص.
جاء ملف المطربين الشعبيين إلى الواجهة مجدداً عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، بعد حصول إحدى أشهر المغنيات الشعبيات على جائزة آغا خان الدولية، وهي المغنية زارسانغا (Zarsanga)، التي كان شهيرة للغاية في أيام شبابها. ولكن بعد تجاوز الـ 60 عاماً، أصبحت منسية لا يعرف أحد عنها شيئاً، بينما كثيرون كانوا يستمعون إليها قبل ذلك.
تفاجأ الجميع بعدما جاءت إلى الأضواء مجدداً وعُرف أن المرأة، تعيش في خيمة متواضعة ورثة على قارعة إحدى الطرق في شمال غرب باكستان، وهي تجتهد ليل نهار بعد أن تجاوزت الـ 70، من أجل الحصول على لقمة العيش والرزق لأحفادها الذين يعيشون معها في نفس الخيمة. يُطلق على زارسانغا، لقب ملكة الفولكلور البشتوني، لتفانيها طوال حياتها المهنية في أداء الموسيقى التقليدية المنقولة شفهياً لقبائل البشتون.


ولما أُعلن اسم المغنية من بين الحائزين جائزة آغا خان، لم تكن هي ولا أسرتها تعرف عنها شيئاً، كونها تعيش في خيمة زهيدة ليست عندها حتى أبسط مقومات الحياة ولا وسائل التواصل مع الآخرين. وبعد أن احتشدت وسائل الإعلام المحلية حول خيمتها قالت زارسانغا: "لا أعرف عن الجائزة شيئاً، ولا أدري ماذا يدور في العالم، حتى أنا لا أدري ماذا يدور خارج خيمتي، لقد أمضيت كل عمري في الفن والغناء، ولكن الآن لا أملك حتى السقف لأعيش تحته مع أهلي، ولأمضي فيه ما بقي من عمري".
بينما يقول ابنها هجران، في حديث إلى "العربي الجديد"، عبر الهاتف، إنه علم نبأ حصول والدته على جائزة آغا خان عبر الهاتف في السابع من الشهر الحالي، بعد أن اتصل به شخص يعرفه، وأعطاه هذا الخبر، ولكنه ما كان يعرف عن الجائزة كثيراً قبل أن تهتم بالأمر وسائل الإعلام، موضحاً أنه يعيش مع أسرته في حالة صعبة للغاية، في خيمة على قارعة الطريق في منطقة كوهات شمال غرب باكستان. ولكنه سعيد في الوقت نفسه بعد حصول والدته على الجائزة، علها تغير حالتهم المعيشية بعد اهتمام وسائل الإعلام والجهات الرسمية بهم.
يشكو الشاب ليس فقط من تهميش الحكومة والجهات الرسمية، بل حتى من تعامل الأطياف الشعبية، مؤكداً أن الجميع يحبون أغاني والدته ويسمعونها، ولكن لا أحد يسأل عن حالها: "لقد عشنا أياما صعبة للغاية"، يقول هجران، معرباً عن أمله أن يكون هذا نهاية تلك الفترة العصيبة.
ولدت المغنية الفلكورية الشهيرة زارسانغا في قرية فقيرة في منطقة لكي مروت شمال غرب باكستان في عام 1946، في بيت فقير، ويقال إن عائلتها من البدو الرحل. وما إن وصلت إلى سن المراهقة، حتى تزوجت من شخص يُدعى لعل جان، وأنجبت منه ستة أبناء وثلاث بنات، كلهم تزوجوا ولهم أسر. هي بدأت تغني وهي في الـ 20 من عمرها، بعد أن تعلمت الفن من بعض المغنين المحليين الذين كانوا يعيشون بالقرب من قريتها.
لا تعرف زارسانغا عدد الأغاني التي أدّتها، ولكنها تقول إنها قد تكون بالمئات. كما أن شهرتها بين قبائل البشتون لم تكن تقتصر على المنطقة التي تقطن فيها تلك القبائل، بل تعدت ذلك إلى أقاليم باكستانية مختلفة، وإلى بلدان تعيش فيها تلك القبائل، كبريطانيا وفرنسا وغيرهما، ولكنها في نهاية المطاف بدأت تعيش في حياة مليئة بالأسى والفقر داخل خيمة لا تقيها من حر الصيف ولا من برد الشتاء.
ستتسلم زارسانغا الجائزة في نهاية الشهر الحالي، في حفل يُقام في سلطنة عمان، ولكنها لا تدري إن كان الاهتمام بها سيستمر أم لا، وإن كانت تلك الجائزة قد تغير حالها، أم تبقى هي كما كانت لتعيش في نفس الخيمة، وعلى نفس الطريق.
قصة زارسانغا القاسية ليست الوحيدة، بل هناك قصص كثيرة للمغنين الشعبيين في شمال غرب باكستان (بين قبائل البشتون). فهذه المغنية الشعبية حسن زري، هي الأخرى تعيش في منزل يشبه الكوخ في مدينة بشاور مركز إقليم خيبربتختونخوا. بيتها يفتقر إلى كل مقومات الحياة، فعند هطول الأمطار تنزل المياه إلى داخل الغرف من السقف وهي عاجزة عن ترميمه أو تغيير البيت. عملت حسن زري في مجال الغناء لأكثر من 35 عاماً، وكانت من المغنيات الشهيرات على القناة الوطنية الباكستانية قبل ثلاثة عقود، ليست فقط لأنها كانت تؤدي الأغاني الشعبية، بل لأنها كانت تغني ولم تكشف عن وجهها خوفاً من أسرتها.

تقول في حديث إلى "العربي الجديد": "لقد مررت بظروف صعبة للغاية لما بدأت الغناء وكان عمري فقط 14 عاماً، إذ كانت أسرتي تمنعني من الغناء. لاحقاً، تزوجت وعمري 21 عاما. بدأ زوجي يساعدني. ولكن رغم ذلك كنت خائفة من أبي إلى درجة أنه لو رأى وجهي على الشاشة، أو رآني أغنّي بوجه مكشوف، ربما كان ليقتلني. المشكلة الآن أنه ما من اهتمام بالموسيقى الشعبية".

لم يعد التهميش الحكومي وحده السبب الأساسي وراء الأحوال السيئة التي يمر بها المطربون الشعبيون، في منطقة قبائل البشتون، بل أيضاً الأعراف والعادات المتجذرة، التي تجرم خروج النساء حتى لتلقي العلاج في بعض المناطق. فما بالك بالخروج من المنزل من أجل الطرب والغناء؟ إنها لجريمة لا تغتفر خاصة في المناطق النائية، كما تقول الناشطة والمهتمة بدراسة الفن والموسيقى غوتي غوث، التي درست الفنون في جامعة بشاور.
توضح غوتي أن هناك أسباباً كثيرة، منها تهميش الحكومات، والأعراف والتقاليد، والوضع الأمني بشكل عام، إذ إن منطقة البشتون تتعرض للحروب المتتالية على مر العقود، متمثلة بالغزو السوفييتي، وبعدها الحرب على الإرهاب التي كانت تقودها الولايات المتحدة الأميركية، وقبلهما الاستعمار البريطاني للمنطقة. وقبائل البشتون، على مدار الفترات المختلفة، كانت تقاوم كل ذلك. وبطبيعة الحال، كانت تلك الحروب تؤدي بدورها إلى ظهور تيارات إسلامية متطرفة تعارض الطرب والغناء، خاصة إذا كان من قبل الشريحة النسائية.

المساهمون