الأغنية البديلة... كلّ الطرق تؤدّي إلى أين

30 ابريل 2023
فرقة "طنجرة ضغط" السورية المقيمة في لبنان (فيسبوك)
+ الخط -

تبدو مسألة "انحطاط" الأغنية العربية من بين أكثر المسائل حظوةً بالإجماع لدى الأوساط الفنية والثقافية حتى عموم الناس في سائر المنطقة الناطقة بالعربية. منذ ثمانينيات القرن الماضي، والشكوى تتردد إزاء ما يُسمّى بـ"تدهور الفن الغنائي" على كل الأصعدة، من ندرة الأصوات الجيدة، إلى تردّي النصوص والأشعار صياغةً وأفكاراً، فضلاً عن الألحان المعلّبة والمكرورة. إلى أن بات وسم "الأغنية الهابطة" يُطلق تمعّناً تارةً وجزافاً تارات في كل المناسبات على أي أغنية تروج في وسائل الإعلام، عبر كل منصة وعلى كل لسان من كان عالماً بالأدب والفن أم جاهلاً.

إلا أن المسألة لم تبق أسيرةً ضمن حدود الشكوى. ثَمّ العديد من المساعي على مدى العقود الأربعة الماضية، منها الجاد ومنها الهزيل، لإحداث خرق على صعيد الأغنية، سواء على مستوى الشكل، المضمون أو كليهما. إلى أن بات يُحكى عربياً منذ مطلع الألفية الراهنة عن "الأغنية البديلة" التي تتكئ من حيث المضمون على موضوعات تخرج عن الغراميات النمطية، وغالباً ما تستلهم من حيث الشكل أغنية البوب الغربي المستقل، ذات الميل الشبابي النخبوي المشار إليها بمصطلح "إندي" (Indie)، تمييزاً لها عن تلك الجماهيرية التي يُدفع بها إلى سوق السمعيات بقوة شركات إنتاج كبرى لا هاجس لها سوى المال.

من جهة أخرى، وضمن سياق تاريخي عربي، فإن "الأغنية البديلة" المعاصرة لا تطرح نفسها تفرّعاً لموروث الأغنية السياسية "الهادفة"، أو "الملتزمة"، التي وإن نأى مقدموها بأنفسهم عن هاجس الكسب أولاً والغناء الغزلي ثانياً، فإن مشروعهم  النخبوي، أو الطليعي بتعبيرٍ أكثر انسجاماً مع روح الحقبة حينذاك، ظل متكئاً على القضايا العربية الجامعة؛ التحرّر والتحرير والنضال من أجل فلسطين.

في حين أن مقدمي "الأغنية البديلة" لا يغنون لأجل الشعارات العروبية والاشتراكية الكبرى، بصورة مباشرة على الأقل، على اعتبارها خطاباً أيديولوجياً تبّناه النظام العربي الرسمي لعقود، وإنما يتطرقون إلى موضوعات قد تشكل تلك القضايا فيها مجرد خيوط ضمن نسيج اجتماعي واقتصادي تُحاك من منظور ذاتي عصري.

السبب قد يكمن في أن ثمة جيلاً صاعداً أوّل الألفية، أخذ يرى ذاته ليس في مجال الدولة والإقليم الجيوسياسي، وإنما كلّ الكوكب، وعليه، أخذت هواجسه وآماله تتسع وتتشابك مع شبيبة حول العالم باتوا يؤسسون معاً طبقة وسطى معولمة تجتمع حول هموم مشتركة تتجاوز الحدود، تتصدرها الحريّات المدنية ومواجهة مظاهر العنف التهميش، التمييز والتعيير.
 
تلك الطبقة الجديدة الناهضة من ركام طبقة وسطى لقرن مضى، الوليدة من رحم عولمة الإنترنت، لئن تمتعت بذائقة غربية الهوى، إضافة إلى طلاقة اللغة الإنكليزية، لغة العالم الراهن، فستميل موسيقاها بصورة طبيعية جهة الأجناس الأنغلوأميركية كالروك، البوب والهيب هوب، وإن لم تخل من طعوم محلية لمقامات وإيقاعات شرقية إذعاناً لجدلية الخارجي الدخيل والداخلي الأصيل.

فرقة "مسار إجباري" نموذج مصري من مدينة الإسكندرية. وإن يعود تاريخ تأسيسها لسنة 2005، إلا أنها وكمعظم فرق الأغنية البديلة، اكتسبت زخماً مطلع العقد الثاني إبان ثورات الربيع العربي سنة 2011. تتجسد ملامح المناهَضة من اسمها، بما فيه من مضمون ساخر إزاء ثقافة سائدة سلطوية تفرض على الناس مسارات حيواتهم. موسيقياً، تتبنى الفرقة أسلوب الروك بآلات الغيتار الكهربائي وطبول الدرامز، الذي يُمزج بين الفينة والأخرى بالأغنية المصرية الشاعرية لحقبة التسعينيات.

لبنانياً، تجد فرقة "الراحل الكبير" لها في تجربة الشيخ إمام وفؤاد نجم مصدر إلهام؛ إذ ينزوي التلحين والأداء خلف المضمون النقدي المعبر عنه بالنص المُغنّى. أما النص، فيعتمد بدوره كلّاً من السخرية والعبث في إيصال الرسالة. إذ لا توارب الراحل الكبير إزاء هويتها "البديلية"، ولا تسعى إلى "حيازة الكعكة وأكلها في آن" من خلال تزويق أغانيها والعناية بالإنتاج الفني بقصد كسب ولو جزء من جمهور الثقافة السائدة.

من سورية، ليس فيها وإنما بلبنان بحكم الواقع المهجري الكليم، تعتمد فرفة "طنجرة ضغط" في إنتاجها الفني الترجمة الحرفية لمسمى أسلوب الروك الصاخب هيفي ميتال (Heavy Metal) أي معدن ثقيل، كأني بها ترى الخشونة أمثَل دلالة حسية على حجم الضغط بجميع أشكاله، الذي بات يأن لوزره جُلّ الشباب العربي. أكثر ما يُميّز أغاني الفرقة هو جمالية النصوص وشعريتها غير المستحية، أولاً من خلال اقتدائها بقوافٍ تستلهم لون الراب، وثانياً تأثّراً منها بالفنان اللبناني زياد الرحباني لجهة توظيف المجاز في تضمين مفردات الحياة اليومية رسائل سياسية اجتماعية ساخرة. هنا، يحق لإرث زياد الرحباني أن يُتوقف عنده كأحد روافد "الأغنية البديلة" بشكلها الحالي، وهي على عتبة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

ذاك بحكم نشأة جيل الألفية على المافريكية الرحبانية (من Mavrick أي الشخصية الشاذة المستقلة ضمن المجال الثقافي والإعلامي)، إلا أن لجيل الثمانينيات والتسعينيات ذاكرة مغايرة و"كودات" ثقافية خاصة به، إذ هو جيل تلفزيون وقمر صناعي، ليس جيل راديو أو صحيفة، ولم ينضو بغالبيته في أحزاب عقائدية، إذ تقوم نوستالجياه على مسلسلات كرتونية كَبُر عليها، مثل "افتح يا سمسم" و"غراندايزر"، أكثر مما تقوم على أدبيات أنطون سعادة أو خطب جمال عبد الناصر. وذلك كما تدلّ أغنية "اركض عالجِم"  لفرقة "أوتوستراد" الأردنية.

هكذا يتبين أن مسمى "أغنية بديلة"، إنما يُشير إلى أغنية في أزمة. إلا أن الأزمة لا تبدو حكراً على الأغنية ولا على الفن، إنما هي بالشامل المجمل أزمة حضارية. ليس ثمّ شحّ بالمواهب والحناجر، وإنما افتقار للأطر المؤسسية الرسمية والثقافة المجتمعية التي ترعى المواهب والحناجر. ليس ثمّ شح في الأشعار والألحان، وإنما افتقار للأدوات الفنية والرؤى النضرة ومناخات الحرية التي تقود إبداع الأشعار والألحان.

فما "الأغنية البديلة" سوى صرخة سخط تصدر عن جيل معولم غرّبته الأزمة الحضارية في وطنه وعن وطنه، ولم يتمكن إلى الآن من العثور على وطن بديل، على الرغم من كل طرق الهجرة الملتفة والشرعية. كما لو أن مصير البديل أن يبقى بديلاً وألا يحل محل الأصيل، ما دامت الأصالة لا تُرى من منظار الفرادة والابتكار، ومن ثم المُضي قدماً نحو المستقبل، إنما من منظار التقليد والعودة إلى الماضي أو البكاء على أطلاله، بحيث تمسي كل من الأغنية الهابطة والبديلة مناديل تُمسح بها الدموع.

المساهمون