أربع سنوات من تحريض ترامب: حرية الصحافة أكبر الضحايا

04 نوفمبر 2020
+ الخط -

قبل أربع سنوات، تحديداً قبل عام من انتخاب دونالد ترامب رئيساً، لم يكُن في الولايات المتحدة نسبة كبيرة تتوقّع وصول رجل الأعمال إلى البيت الأبيض. حينها، لقّبت وسائل إعلام أميركيّة وعالميّة المرشّح الجمهوري بـ"المهرّج"، نسبةً لتصريحاته غير الواقعيّة، لا بل المتعدّية على كلّ القيم، وبرنامجه البعيد عن الحقوق والقريب من انتهاكها. لكنّ أربع سنواتٍ من حكم هذا الرئيس الذي لا يزال البعض في العالم العربي يعتبرونه "صريحاً" و"شفافاً" (البروباغندا التي ينشرها فريقه)، أثبتت أنّ هذا النوع من التهريج غير مضحكٍ البتّة، خصوصاً بالنسبة للصحافيين. فخلال أربع سنوات، محى ترامب "الخطّ" الأميركيّ القريب من حريّة التعبير، ورسم خطّا آخر قريباً من الديكتاتوريات والمستبدّين، وأفلام الرعب.

من المفارقة أنّ الانتخابات الرئاسية الأميركيّة 2020 (3 نوفمبر) أجريت بعد يومٍ من "اليوم العالمي لمناهضة الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضدّ الصحافيين" (2 نوفمبر) في ظلّ دعوات لـ"رمي ترامب خارجاً". فرجل الأعمال اللاهث وراء الصفقات والمال والتبجيل، اعتمد سياسةً غير مسبوقة لرئيس أميركي في التعامل مع وسائل الإعلام: عاداها وأطلق عليها لقب "عدوّ الشعب"، محرّضاً ضدّ جميع ممارسي المهنة بلا استثناء، رغم تركيزه على وسائل الإعلام المعارضة كـ"نيويورك تايمز" و"سي إن إن" و"واشنطن بوست". اتّهمها بنشر الأخبار الكاذبة في كلّ مرةٍ انتقدته، وحاول الانتقام منها. في عهده، أصبح الخطاب البغيض والشتائم وحتى التهديدات بالعنف من المخاطر المهنية للصحافيين والمعلقين السياسيين. كرّس مفهوم إعلام السلطة، فميّز وسائل معيّنة أبرزها "فوكس نيوز" المعروفة بنشر التمييز ونظريّات المؤامرة المحبّبة للرئيس، فظلّ يشاهدها ويستقي معلوماته منها، ويخصّها بظهوره. ألغى مؤتمرات وإفادات صحافية، ثمّ أعادها. بدّل السكرتير الصحافي الخاص بالبيت الأبيض أكثر من مرّة، واستبدل الإطلالات التي اعتادها الصحافيون بتغريداتٍ تضمّنت التمييز والعنصريّة والتحريض تحت عنوان "أميركا أولاً". هاجم كلّ مَن عارضه، وأثبت أنّ وسائل التواصل الاجتماعي مجرّد شركاتٍ منافقة ستحابي مَن في السلطة وستمرّر انتهاكاته لسياساتها، حتى ضدّ نائبات أميركيّات. 

ميدانياً أيضاً، لاحقت هراوات الشرطة المراسلين والمصوّرين، ومنعتهم من القيام بعملهم، خصوصاً لجهة تغطية انتهاكاتها ضدّ المتظاهرين بعد مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض. كثفت إدارة ترامب ملاحقات المصادر الإخبارية، وتدخلت في أعمال مالكي وسائل الإعلام، وضايقت الصحافيين الذين يعبرون حدود الولايات المتحدة، ومكنت القادة الأجانب من تقييد وسائل الإعلام الخاصة بهم. لكن حيلة ترامب الأكثر فاعلية كانت تدمير مصداقية الصحافة، وتقويض الحقيقة والإجماع بشكل خطير، حتى مع تهديد جائحة "كوفيد-19" بقتل عشرات الآلاف من الأميركيين، بحسب تقرير للجنة حماية الصحافيين.

كان الصحافيون ضحايا معارك ترامب الخارجيّة تحت حكم إدارته. ففي ظلّ سعيه لهيمنة اقتصاديّة وسياسيّة أميركيّة على العالم، قمع الصحافيين الأجانب في الولايات المتحدة الأميركيّة، وأجبرهم على التسجيل كوكلاء أجانب، خصوصاً صحافيي روسيا والصين، والذين اعتمدت دولهم سياساتٍ مشابهة ضدّ الصحافيين الأميركيين فيها. منع ترامب أو حاول منع صحافيين من التغطية في البيت الأبيض، فأعاد الفعل رؤساء في بلدان كانت تسمح بهامش لحريّة التعبير سابقاً. رُفعت دعاوى من صحافيين ضدّ إجراءاته، فحمى القانون المراسلين وأعادهم لأماكن عملهم، في ظلّ عدم اكتراثه لمناشدات ودعاوى ورسائل وجّهها صحافيون ومنظمات حقوقيّة له، تطلب منه أن يولي حريّة التعبير اهتماماً، وهو ما كان موضوع رسالةٍ وجّهتها له 72 مجموعة ومنظمة، وموضوع دعوى قضائيّة من مؤسسات إعلاميّة ضدّه. 

حاول الصحافيون المقاومة عبر مواقف واضحة ودعاوى أو عبر تغطياتهم. في خطوة منسقة العام الماضي، نشرت أكثر من 300 صحيفة أميركية مقالات افتتاحية تعترض على هجمات ترامب المستمرة على وسائل الإعلام. وهذا العام، كجزء من تقريره السنوي عن الحريات الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، اتخذ رئيس "فريدوم هاوس"، مايكل أبراموفيتز، خطوة غير عادية في تحديد قسم خاص لـ "النضال يعود إلى الوطن: الهجمات على الديمقراطية في الولايات المتحدة"، في إشارةٍ إلى ازدراء ترامب للصحافة. دفعت إجراءات إدارة ترامب المنظمات والمؤسسات الحقوقية والإعلاميّة في الداخل الأميركي وحول العالم إلى دقّ ناقوس الخطر، خصوصاً في تقاريرها السنوية التي لحظت التدهور الذي تسبّب به ترامب حول العالم، وكان بينها الأمم المتحدة. إذ اتهم المقرر الخاص الأسبق للأمم المتحدة لحرية التعبير، ديفيد كاي، البيت الأبيض بشن "هجوم" على وسائل الإعلام وأشار إلى "تأثير سلبي لترامب" على حرية الصحافة في العالم.


وفي آخر إفادة صحافية له قبل انتهاء فترة عمله هذا العام، قال ديفيد كاي، في سلسلة تعليقات صريحة، إنه يأمل أن تنتهي "الهجمات" على الصحافيين الأميركيين عندما يترك الرئيس دونالد ترامب منصبه. وأضاف: "من الواضح أن نهجه خلال السنوات الأربع الماضية صار الطريقة التي يخاطب بها هذا الرئيس بالذات وسائل الإعلام: الطريقة التي يشوه بها وسائل الإعلام ويشوه بها حرية التعبير". وسُئل كاي عن تأثير ذلك على حرية الصحافة حول العالم فقال "هناك تأثير لترامب بشكل واضح، وهو تأثير سلبي للغاية"، مضيفاً أن الإدارات الأميركية السابقة كانت أكثر انتقادا للهجمات على الصحافة من نوع قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. وأضاف أن إدارة ترامب أوجدت ثقافة عالمية من المسامحة. وأثار كاي أيضاً مخاوف كبيرة من حملات الحكومات التي زادت سوءًا مع جائحة كوفيد-19 في نطاق اتجاه وصفه بأنه "مزعج للغاية" ويسهم في انتشار المرض.

يؤكّد شريف منصور، منسق برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "اللجنة الدولية لحماية الصحافيين" CPJ في حديث لـ"العربي الجديد" أنّ "هذا الزمن يعدّ من الأسوأ على الصحافيين حول العالم، وفي داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها. والسبب الرئيسي في ذلك سياسة ترامب الخاصة بـ"أميركا أولاً"، إذ إنها في تفسيره، وفي الواقع الفعلي، أصبحت تتلخّص في قيام حكومات ومسؤولين دول أخرى بمدح الرئيس ترامب شخصياً وعائلته، وأيضاً شراء معدات وأسلحة أميركيّة، في مقابل سكوت ترامب وأجهزته وإعلامه عن ما يحدث في هذه الدول، بما فيها قضايا حقوق الإنسان، وقضايا حريّة التعبير وحريّة الصحافة".

"أميركا أولاً في تفسير ترامب تتلخّص في قيام حكومات ومسؤولين بمدح الرئيس شخصياً وعائلته وشراء معدات وأسلحة أميركيّة، في مقابل سكوت ترامب وأجهزته وإعلامه عن ما يحدث في هذه الدول

في عهد ترامب، شاهد العالم، وتحديداً الأنظمة الاستبداديّة المنكّلة بشعابها وحرّيته في التعبير، كيف تتعامل الشرطة الأميركيّة مع الصحافيين، وكيف يمكن لها أن تقمعهم وتمنعهم من أداء عملهم وأن تفلت من العقاب. كان ذلك بمثابة ضوء أخضر لانتهاك كلّ الحقوق. يقول منصور: قد يكون من أكثر ما قاله وفعله ترامب بخصوص الصحافة يتركّز في العام الحالي 2020، ولكنّه بدأ منذ اللحظة الأولى لتولّيه منصبه وقبل حتى انتخابه رئيساً من خلال خطاب عدائي واستعدائي للتحريض على الصحافة من خلال اتهامها بنشر أخبارٍ كاذبة ومن خلال الترويج لنظريّات مؤامرة ضدّ الصحافيين، والتي ترتّب عليها لفترة كبيرة قيام العديد من حلفاؤه في الداخل والخارج استخدام ذريعة الـ"فايك نيوز" أو الأخبار المزيّفة لسجن الصحافيين. في مصر على سبيل المثال كانت أكبر دولة حول العالم في سجن الصحافيين بتهم الأخبار الكاذبة. في تقريرنا العام الماضي، كان أكثر من ثلثي الصحافيين حول العالم المسجنونين بهذه التهمة في مصر، ومعظمهم بقضايا سياسيّة ملفّقة. في العام الحالي، الخطاب العدائي تطوّر لعمليّات احتجاز وتعقّب وحتى إصابات لصحافيين محليين وأجانب ممّن غطّوا الاحتجاجات ضدّ الحكومة، ما نتج عنه مئات الاعتقالات والإصابات، وانتهت أخيرًا بقيام الحكومة الأميركيّة بتغيير سياستها التحريريّة على سبيل المثال في الصحافة المملوكة للدولة كـ"صوت أميركا" في الخارج، ومنع العديد من الصحافيين أو المراسلين الأجانب من ممارسة المهنة داخل أميركا لاعتبارات سياسيّة وطرد بعضهم في نزاعات مع الصين وغيرها، كما تفعل جميع الحكومات المستبدّة حول العالم.

أكبر تراجع شهدته حريّة الصحافة في الولايات المتحدة تحت حكم ترامب يتمثّل في التشهير المتعمّد لدور الصحافي

"بالإضافة إلى تبرير ومساعدة الحكّام حول العالم في قمع الصحافة، كان أكبر تراجع شهدته حريّة الصحافة في الولايات المتحدة تحت حكم ترامب يتمثّل في التشهير المتعمّد لدور الصحافي، وحتى قيام أجهزة الدولة الأميركيّة بما فيها الشرطة بتعقّب واحتجاز وضرب وفي أحيان كثيرة إصابة صحافيين أميركيين من الذين قاموا بتغطية الاحتجاجات هذا العام، والتي مثّلت تراجعاً غير مسبوق في أميركا نفسها، استثمره العديد من "الأوتوقراطيين" (المستبدّين) حول العالم لتبرير انتهاكاتهم داخل حدودهم"، بحسب منصور. ويقول لـ"العربي الجديد": "أكبر دليل على ذلك كان رخصة القتل التي أعطاها ترامب (لولي عهد السعودية محمد) بن سلمان خلال حمايته شخصياً من أي تعقّب قضائي أو عقوبات كبيرة لما فعله في قضية (اغتيال) جمال خاشقجي، وأيضاً في التوسّع الكبير لأصدقاء الولايات المتحدة في الخارج وحلفائها في سجن الصحافيين والتنكيل بهم على مستوى العالم. خلال السنوات الأربع الماضية، كانت أكبر الدول سجناً للصحافيين في الغالب دول حليفة للولايات المتحدة الأميركيّة، ومعظمها في المنطقة العربيّة ومنطقة الشرق الأوسط بما فيها مصر والسعودية وتركيا. كما أنّ حتى بعض الدول الحليفة التي كانت في الماضي تتمتّع بهامش من الحريّة كما رأينا في المغرب ولبنان والأردن، استثمرت فرصة وجود ترامب للتضييق على الحريّات المتاحة وغلق مجالات التعبير على الإنترنت وخلافه".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

ولكن هل يمكن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، أو محو إرث ترامب المنتهك والمرسّخ للانتهاكات؟ يقول منصور: الرهان أنّ تغيير الحكومة الحالية إلى حكومة ديمقراطية قد يغيّر العديد من هذه المشاكل وقد يُحسّن على الأقل داخل الولايات المتحدة وخارجها من فهم دور الصحافة والسماح باستقلاليّة الصحافة داخل وخارج أميركا، لكن تظلّ معضلة تناقض السياسات الخارجيّة الأميركيّة بما يخصّ قضايا حقوق الإنسان وحريّة الصحافة مع المصالح الأميركيّة، إذ لا أظنّ أن ذلك سينتهي، ولكن هناك مؤشّرات قام بها المرشّح الديمقراطي جو بايدن لتمييز سياسته الخارجيّة عن سياسة ترامب، بما فيها محاسبة حلفاء أميركا، على سبيل المثال العاهل السعودي في قضيّة خاشقجي، وفي قضيّة سجن الصحافيين في السعوديّة ومصر وغيرها من القضايا التي نتوقّع أن تكون على أجندة الإدارة الأميركيّة القادمة، وأيضاً بمساعدة الكونغرس، إذ نتوقّع أن يستمر أعضاء الحزب الديمقراطي وبعض الأعضاء من الحزب الجمهوري في المساهمة بالضغط على حكومات حول العالم في ما يخصّ قضايا الحريّات، كما رأينا مؤخراً من خلال خطابات للعشرات من أعضاء الكونغرس إلى مصر، فيها تهديدات بعقوبات إذا استمرّت الحكومة في سجن الصحافيين.

برغم محاولاتها، لم تستطِع وسائل الإعلام الأميركيّة والعالميّة رفع الوعي وتشكيل إجماع شعبي حول سياسات ترامب ونظريّاته وأكاذيبه، بينما كان مستمراً في نشرها عبر "تويتر" بشكلٍ رئيسي، محرّضاً ومزدرياً الصحافة. ومع احتمال عودة ترامب لسنواتٍ أربع جديدة في الانتخابات التي أجريت أمس الثلاثاء، تجد وسائل الإعلام نفسها أمام تحدّياتٍ جديدة وخناق قد يضيق عليها. ففي ظلّ قطاعٍ مأزوم أصلاً، واقتصادات تنهار حول العالم، على الإعلام الأميركي أن يقاتل على جبهاتٍ متعدّدة، للدفاع عن نفسه وعن حريّته وحرية الأميركيين وحقوقهم، في وجه رئيس وإدارة كرّست أسوأ ما في العالم بعد القتل والظلم: الإفلات من العقاب.

المساهمون