آلان غوميس (2/ 2): أحياناً عليك البحث طويلاً وبشكلٍ مُضنٍ عن الجمال

آلان غوميس (2/ 2): "أحياناً عليك البحث طويلاً وبشكلٍ مُضنٍ عن الجمال"

20 سبتمبر 2023
آلان غوميس: "عندما نغضب نضرّ أنفسنا والذين حولنا" (باسكال لو ساغروتان/Getty)
+ الخط -

 

(*) ما تفتأ تؤكّد أنْ لا ضغينة لديك تجاه مقدّم البرنامج (الصحافي وعازف البيانو هنري رونو ـ المحرّر)، لأنّك إذا فَقَدْت المسافة اللازمة مع ما تقوله، يُمكن أنْ تقع بسهولة في التلاعب نفسه الذي سقط فيه. هل شعرت بهذا الخطر في مرحلة ما؟

طبعاً. إنّه الحيّز الذي كان الفيلم فيه مُثيراً جداً بالنسبة إليّ. أنْ أسأل نفسي، عبر صُنع هذا الفيلم، وكمخرج: إذا أصبح هو عنيفاً، لأنّه يدّعي نوعاً من الموضوعية، فكيف يُمكنني ألا أسقط في الموقف نفسه؟ يعتقد أنّه فهم كلّ شيء، وأنّه شخص منفتح، إلخ. لكنْ، يمكننا أنْ نرى بوضوح أنْ لا شيء من ذلك صحيح. كيف لا أكون في الموقف نفسه؟ كيف أتحمّل عواقب ذاتيّتي؟ أنْ تظهر العالم كما تدركه يتطلّب مونتاجاً. يستدعي ذلك أنْ أظهر المادة الخام، كما هي. لكنْ، في الوقت نفسه، أنْ أبيّن التغييرات التي أدخلتها عليها.

في مرحلة معيّنة، شعرت بواجب رؤية ابنه، لأريه الفيلم في مرحلة المونتاج، وأخبره بما أفعله. حتّى ابنه يُمكن أنْ يكون مخطئاً بالطبع. لكنْ، كان مهمّاً أنْ أسأله: "هل هذا منطقي بالنسبة إليك؟". أتذكّر أنّه لم يتوقّف عن البكاء في العرض، ثمّ قال لي: "الرجل الذي أراه هنا هو أبي كما عرفته". هذا لا يعني أنّي أقول الحقيقة، لكنْ على الأقل كان مهماً أنْ أقول: هذا الرجل يثير الاهتمام. لكنْ، في كلّ مرة نريد أن نتحدّث مَكانَ شخصٍ آخر، أو نتظاهر بأننا فهمناه، نضع أنفسنا في موقف ينتهي بنا إلى إنكاره. أجد أنّ دوري كمخرج لا يتمثّل دائماً في العثور على حلّ. لكنّي أعلم أنّي على الأقل يجب أنْ أتمكّن من إظهار المكان الذي أتحدّث انطلاقاً منه، حتّى يتسنّى لك أنت أيضاً، كناقد أو مشاهد، أنْ تأخذ ما تريد، انطلاقاً من مكانك الخاص.

أعتقد أنّه مهمّ تحديد المكان الذي تتحدّث انطلاقاً منه.

 

(*) أحسستُ قليلاً أنّ الفيلم يقع في منتصف الطريق بين "فينوس سوداء" (2009) لعبد اللطيف كشيش وأفلامك، إذْ تحضر فكرة "معبر الآلام" (Via Dolorosa)، الذي تقطعه شخصية المغنّية في "فيليسيتي" (2017)، أو يجتازه ساتشي، الذي يؤدّي دوره الموسيقي سول ويليامز، في "اليوم" (Tey، 2012). لذا، هذا الفيلم، وإنْ يكن وثائقياً ولم تُصوّره، يكشف تماسكاً مع عالمك، انطلاقاً من الاختيار اللا واعي لإنجازه، ربّما.

أعتقد ذلك. بالنسبة إليّ، هذا فيلم وثائقي، لكنّه يظلّ محض خيال. هذا يعني أنّي حاولت التعبير عبره عن لحظة محدّدة. يُشبه الأمر عملاً تخييلياً، مع شخصية تواجه شيئاً ما في أعماقها. لذا، أجدها جميلة جداً، لأنّها تظهر كرامة في المواجهة. إذا جعلت شخصية، كفيليسيتي أو ساتشي، تمرّ كما قلتَ بمعبر آلام، فالأمر المثير للاهتمام يتمثّل بسؤال: كيف ستعبره، وتنجح في مرحلة ما في مواجهة الصعوبات، من دون التورّط كثيراً في الوحل؟ هذا صعب. بالنسبة إليّ، هذا بالكاد قابل للتصديق، أنْ ينجح مَنْك في اجتياز كلّ ذلك. ربّما لأنّه حقيقي. أناس كثيرون لو كانوا مكانه لاستشاطوا غضباً، لا محالة.

المشكلة أننا، في حالة الغضب والمشاعر السلبية الأخرى، نُلحق الضرر بأنفسنا، وبالأشخاص حولنا. لأنّك، عندما تعود إلى المنزل مساءً، يتبلور التوتّر الذي راكمته في النهار. في النهاية، جميعنا نعيش رحلة شخصية، يراها البعض روحية، والبعض الآخر لا. لكنّنا، في أي حال، نعيش رحلة شخصية، أو معبراً يتعيّن علينا اجتيازه. التحدّي ماثلٌ في كيفية عدم تمزّقنا حين نواجه المتاعب الموجودة فيها، التي ليس سهلاً مواجهتها دائماً، كالأمراض وصعوبات العيش والظلم. لن يستطيع أحدٌ أنْ يضمن اختفاء هذه الأشياء بين عشية وضحاها.

يبقى بالتالي تساؤل: كيف تساعدنا شخصياتٌ في فيلمٍ على المضي قدماً، ولو قليلاً، في مواجهتها. هذا كلّ شيء.

 

(*) تلعب معالجة الصوت دوراً أساسياً في الفيلم، خاصة في الانتقالات بين المشاهد، مع انحياز إلى تفضيل الانتقالات الصوتية باعتبارها قطيعة أو إزعاجاً يساهم في الشعور بعدم الارتياح. هل كان مُتعمّداً العمل عليها بهذه الطريقة؟

أحياناً، خاصة بالنسبة إلى الاشتغال على الصوت، وفقط لاحقاً، عندما تنظر إلى النتيجة، أو ربما مع الأسئلة المطروحة، مثل سؤالك هذا، فتقول لنفسك: "آه. هكذا إذاً".

 

 

أنجزت مونتاج الفيلم بكل استمتاع، وللصّوت جزءٌ كبيرٌ في ذلك. أعدنا تصميم المؤثّرات الصوتية في بعض اللقطات، كتلك التي يسير فيها مَنْك في الشارع، لأنّه يُمكن أنْ يبدو أخرق قليلاً. لكنْ، مَن منّا جرّب المشي مع كاميرا، وفريق تصوير أمامه؟ حاولت أيضاً جعل حضور الفريق والفنيين محسوساً، لأنّي لم أتوفّر على لقطات الحقل المقابل. سعيتُ أيضاً، في الاشتغال على تصحيح الألوان، إلى تعزيز الشعور بالضوء المُسلّط على وجهه في الأوقات كلّها، ما جعله يتصبّب عرقاً. أحياناً، تضع شيئاً ما في مكانه الصحيح، في المونتاج، فينشرح قلبك بطريقة ما. هذا الشيء الوحيد الذي أبحث عنه.

عندما شاهدت الفيلم على الشاشة الكبيرة، للمرة الأولى، تفاجأت، لأنّي اشتغلت عليه فترة طويلة، وفجأة شاهدته كاملاً، مع كلّ العمل الصوتي الذي قمت به: مزج الأصوات مع الانتقالات القاطعة كما قلت. لأول مرة تأثّرت كثيراً، لأنّي لم أكن أنتظره بهذا الشكل. أعتقد أنّك تكتشف فيلمك فعلاً أثناء تقدّمك في العمل عليه، أو في فترة صنعه، كما يكتشف عالم الآثار الأشياء بإزاحة الأتربة عنها. مثل هذا الأخير، تتخلّص تدريجياً من أشياء غير ضرورية، وتقول لنفسك، في لحظة معيّنة: "في الواقع، هذا إذاً ما لمسني في مستهلّ المشروع. لم أستطع قول كُنهه، قبل مشاهدتي النتيجة النهائية". كلّ العمل المتعلق بالمونتاج ومزج الصوت يصلح فقط لمحاولة اكتشاف الشعور الأول الذي انتابني إزاء مشروعي.

 

(*) لنْ أنسى شعوري إزاء المقطع الموسيقي الطويل من معزوفة "حوالي منتصف الليل"، الذي جعلني أنسى فكرة الزمن نفسها. لذا، فالفيلم بالنسبة إليّ يدوم أكثر من 65 دقيقة.

حقّاً؟ (يضحك).

 

(*) كان نوعاً من جبر الضّرر أنْ تعطي مَنْك الكلمة للتعبير عن نفسه، أخيراً، بأجمل طريقة، من دون أنْ تقطعه، هذا الأهمّ. هل كان بديهياً أنْ تضع هذه المعزوفة بهذه الطريقة المجازفة، كقطعة طويلة وغير مُجتزأة، في فيلمٍ قصير نسبياً؟ هل فكّرت في ذلك منذ البداية؟

فكّرت في الأمر بهذه الطريقة باكراً جداً. ثمّ تأكّد لي صوابها عند القيام بها. هناك أفلام كثيرة عن موسيقيين، لكنّنا بالكاد نسمعهم يعزفون. نتحدّث عنهم ونرى حياتهم، لكنّنا لا نسمع موسيقاهم، بينما هم يُعبّرون عن أنفسهم من خلالها. بالنسبة إليّ، مُهمٌ في فيلمٍ عن ثولونْيَس مَنْك، خاصة أنّهم لا يكفون عن مقاطعته، أنْ نحاول الاستماع إليه. من دون ذلك، لا يوجد فيلم. في هذا المقطع، يتجاوز كلّ ما يمكننا قوله عنه. إنّه المكان الذي نفهم فيه موسيقاه، ولماذا لا تزال حيّة إلى اليوم، ونفهم لماذا ليست سلسة أو ملساء، ولماذا تجعلك تسمع نوتات تُصدر "صريراً". لن ننتظر منه عزف أشياء "جميلة"، نظراً إلى ما كان يعيشه في حياته اليومية. لكنّ ذلك لن يمنعه من البحث، لأنّ مسلكه الروحي يتمثّل، تحديداً، في ألا يسمح لهذه الأشياء بسحقه، وبأنْ تحول بينه وبين السعي إلى الجمال. أحياناً، انطلاقاً من حيث أنت، يتعيّن عليك البحث طويلاً، وبشكلٍ مُضنٍ، عن الجمال.

 

(*) هل لا تزل تحضّر فيلماً روائياً عنه؟ أين أنت منه الآن؟

نعم. لا أزال عالقاً في قضايا حقوق التأليف. الأمر مُعقّد، لكنّي أحرز تقدّماً. الأهمّ، أنّي منسجم جيداً مع عائلته. لكنْ، بما أنّ الأمر سيطول قليلاً، سأنجز فيلماً آخر، في العام المقبل، والذي عن مَنْك سيكون التالي.

المساهمون