"برونو ريدال": غوصٌ سينمائيّ أخّاذٌ في جمجمة قاتلٍ استثنائيّ

"برونو ريدال": غوصٌ سينمائيّ أخّاذٌ في جمجمة قاتلٍ استثنائيّ

20 مايو 2022
ديمتري دُري مؤدّياً برونو ريدال: "الانتقال إلى القتل مسألة وقتٍ" (الملف الصحافي)
+ الخط -

في الأول من سبتمبر/أيلول 1905، في غابةٍ في منطقة الـ"كانتال" الجبلية (جنوبيّ فرنسا)، قتل شابٌ (17 عاماً)، يُدعى برونو ريدال، طفلاً بريئاً (12 عاماً)، وفصل رأسه عن جسده بوحشية بالغة، ثمّ سلّم نفسه للشرطة. جريمةٌ هزّت الرأي العام الفرنسي، ولا سيّما أنّ مرتكبها شابٌّ، أمضى عاماً في مدرسة دينية لتحقيق هدفه بأنْ يصبح كاهناً، في خضمّ النقاش المجتمعي المحتدم حول مكانة الدين، على هامش تمرير قانون الفصل بين الكنيسة والدولة.

قرّر فانسان لوبور (1986) أنْ يجعل هذا الحدث مادة لفيلمه الطويل الأول، "برونو ريدال" (العنوان الدولي "برونو ريدال: اعترافات قاتل")، عندما اكتشف صدفةً، في أثناء بحثه في الأرشيف، السطوة الأدبية والصفاء المنبعثين من النصّ المذهل، الذي كتبه برونو ريدال نفسه في فترة اعتقاله، والتحقيق معه، استجابةً للجنة القضاة والأطباء، التي طلبت منه تدوين اعترافاته، وسرد دواعي الجريمة، وخلفيات نزعة القتل، التي يحكي أنّها تملّكته منذ طفولته الأولى إلى لحظة ارتكاب ما لا يُغتَفر.

بعد مشهدٍ تقديمي، يُفصح بغموضٍ عن لحظة القتل، يعود الفيلم إلى فترة ترعرع برونو ريدال في وسط قروي فقير، على يدي أمّ غير رحيمةٍ، لا تتردّد في استعمال الضرب والقسوة النفسية في تربيته، ومعاملة أخته البكر. يلجأ فانسان لوبور إلى الصوت الداخلي لريدال، لتمرير شذراتٍ من نصّ الاعتراف، برهافةٍ بالغة، لا تصبّ أبداً في الوصف أو التفسير، بقدر ما ترافق مشاهد حسّية، تلتقط كيف يساهم الوسط القروي، الممعن في الامتهان، في استلاب شخصية طفلٍ في السادسة من عمره، واغترابه، بفضل إشاراتٍ دالّة، مثل ذبح خنزيرٍ أمام عينيه، قبل تقديم رأسه على طبقٍ، تجتمع عليه العائلة في مناسبة دينية؛ أو سقوطه مريضاً بحمّى حادّة، نتيجة ضربة شمس كادت تودي بحياته، بعد يومٍ كاملٍ أمضاه في حراسة أبقار عائلة غنية، وفقاً لعادة "استئجار" أطفال العائلات القروية المعوزة في فترات الإجازات.

هناك أيضاً مشهد تعرّض ريدال للاغتصاب من راعٍ في سنّ الشيخوخة، يجبره على الاستمناء، فيكتشف إثر ذلك، للمرّة الأولى، القدرة على منح المتعة لنفسه، تمهيداً للازمة اللّذة المرضية، التي سترافق الصبي في مراهقته، قبل أن يتمثّل المخرج، ببراعة، امتزاجها بنزعة القتل في مَشاهد متكرّرة للاستمناء، الذي يمارسه ريدال شاباً بيدٍ، بينما تعبث اليد الأخرى بسكّينٍ يخترق تربة الأرض.

متأمّلاً خلفية أعناق رفاقه في الدراسة، عند استظهارهم الكتاب المقدّس، يُسقِط برونو ريدال (أداءٌ بارع للممثل الشاب ديميتري دُري)، بجسده الهزيل ومظهره الأنيمي، نزعةَ البغض الممزوج بالانجذاب على أجملهم مظهراً، وأوفرهم حظّاً. خليطٌ مرعبٌ وفاتنٌ في آنٍ واحد، بين تأثير إيروس وثاناتوس، يفصح عنه الشاب في نصّ اعترافه، مُتحدّثاً عن شعورٍ يهزّ كيانه، إلى درجة "أنّ الانتقال إلى القتل ليس سوى مسألة وقت". يتجسّد هذا المعطى الأخير في جملة الختم، حيث يعترف ريدال، بعد مشهدٍ يُظهِر جريمة القتل وفصل الرأس ببرودٍ وإمعانٍ في التفاصيل، أنّ ما حدث يتجاوز، بحتميته وتراجيديته، قدرته على المقاومة أو التراجع، رغم سعيه للانغماس في الدين والمطالعة، وتفوّقه في التحصيل والدراسة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

يعترف فانسان لوبور بتأثير "أنا بيار ريفيار، ذبحتُ أمّي وأختي وأخي..." (1976) لروني أليو. لكنّ إخراجه، الذي لا يفرّط في اللجوء إلى الموسيقى، أو أيّ مؤثّرات مُبالَغ فيها، يُحيل بالأحرى على اقتصاد أسلوب روبر بريسّون، واعتماده على التنقية، خاصّة في أفلامه القروية، كـ"يوميات كاهنٍ في القرية" (1951)، بجانبه المرتكز على الصوت الداخلي، أو "موشيت" (1967)، عبر تراجيديته. المفارقة بين مناظر الطبيعة الجبلية والغابوية الخلّابة والمفعمة بالحياة من جهة أولى، وسوداوية أفكار ريدال والنصّ المفرط في القسوة المحتفية بالموت من جهة ثانية، تفسّر جزءاً كبيراً من سحر أجواء الفيلم، الذي لا يخرج ـ رغم نَفَس الرومانسية الكلاسيكية الذي يعبره ـ عن نطاق الواقعية، حتّى لا يطغى الجانب البصري على جانب إعادة تمثيل الواقعة وتمثّلها، بغية "تمهيد أكبر ميدانٍ للسّمع"، بتعبير ريمون دوباردون، أحد التأثيرات المرجعية في أسلوب المخرج.

يظهر الفيلم التحوّلات الاجتماعية العميقة، التي تطبع فرنسا في منعرج فارق في تاريخها، يتمثل بتراجع سطوة الدين، وبداية إفراغ القرية من شبابها، الذي يتجلّى في هجرة رفاق ريدال إلى باريس، والعزلة العميقة التي أحسّ بها، بعد انقضاء الدراسة. ولعلّ شعور الكراهية، التي يُسقطها على رفاقه ممن يمضون عطلتهم في المدينة، ليس سوى انعكاس للبغض الذي يُكنّه لوضعه الاجتماعي المتدنّي، وتوقه إلى الانشقاق عن شرطه القروي، لمعانقة حرية العيش في المدينة.

كأنّ فانسان لوبور أخذ على عاتقه هذه الجملة، التي يتوجّه بها أحد القضاة إلى ريدال في محاكمته: "لسنا هنا للحكم عليك، لكنّنا نريد أنْ نعرف كلّ شيء عنك"، حين يغوص في جمجمة قاتل غير متسلسل، استثنائي بغرابته وتفرّده بأن "يكون بجانبه، من دون أن يتفهّمه بالضرورة"، على حدّ تعبيره؛ مُقدّماً بذلك فيلماً أخّاذاً، يسكن المُشاهد بفضل قبضه على الخيط الرفيع بين التطبيع مع العنف السهل، وعدم إغلاق الأعين عن التعقيد الكامن وراء حركةٍ عنيفةٍ، مغرقة في قسوتها، لكنّها تترجم حكياً أساسياً ومركّباً عن المقاومة الداخلية، والعذاب النفسي، لحالةٍ تستحقّ الوقوف عندها، لأنّها تلقي الضوء على العنف الكامن في شخصية كلّ إنسان، وكيف تساهم ظروف تاريخية واجتماعية معيّنة في كبحه أو إذكائه، ليخرج مُشهراً مفارقاته المرعبة والآسرة في آن واحد.

المساهمون