أفلام "البرليناله 2020": صُور سينمائية عن أناسٍ وبيئات

أفلام "البرليناله 2020": صُور سينمائية عن أناسٍ وبيئات

28 فبراير 2020
كيم مين ـ هِيْ في "البرليناله الـ70" (ماتياس نارِياك/Getty)
+ الخط -
يبدو أنّ "تُحفاً سينمائية" تطرح نفسها في النصف الثاني من الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، بعد أيامٍ أولى تشهد أفلاماً غير صادمة وغير جاذبة وغير مُثيرة لحماسة ومُتَع. هذا لا يعني انعداماً مطلقاً للمهمّ والمختلف، لكن ندرة المهمّ والمختلف طاغية، علماً أنّ قولاً كهذا معنيٌّ ببعض الأفلام التي تُشَاهَد، فالبرمجة تحتوي على 342 فيلماً، بينها 88 فيلماً قصيراً و94 وثائقياً، من 71 بلداً، أي بتراجع 3 بلدان عن دورة العام الفائت. بحسب مجلة "الفيلم الفرنسي" (21 فبراير/ شباط 2020)، اختير العدد المذكور من 7924 فيلماً مُقدَّماً إلى "البرليناله"، مقابل 7861 فيلماً مُقدَّماً إليها في الدورة السابقة.

لذا، يصعب حسم الجدل بخصوص "التُحف الفنية". لكن دردشات بين زملاء وأصدقاء تتوقّف عند غياب المُدهش في برمجة النصف الأول من الدورة الجديدة هذه، في المسابقة و"بانوراما" على الأقلّ، على نقيض ما يظهر في بداية النصف الثاني. أمثلةٌ على ذلك: كوريا الجنوبية وإيطاليا وألمانيا، جهات إنتاجية لأفلامٍ تعكس وقائع عيشٍ وتفاصيل حياة، بلغة سينمائية تعتمد السرد الحكائي منهجاً، أو تختار ما يُشبه الوثائقي، المُطعّم بنَفَسٍ روائي، لالتقاطِ نبضِ اجتماعٍ وانفعالٍ ومرويّات. العنف المبطّن طاغ، لكن السلاسة في التعبير عن مسائل شخصية، مرتبطة بالوحدة وقسوة الانفصال ومواجهة يوميات باهتة لكنها مُكرّرة، تصنع صُوراً باهرة وجاذبة، وتدفع إلى تأمّل وتفكير.

مثلٌ أول: "المرأة الراكضة" (ترجمة عربية للعنوان الإنكليزي: The Woman Who Ran)، للكوريّ الجنوبيّ هونغ سونغ ـ سو. مثلٌ ثانٍ: "حكايات خيالية" (بحسب العنوان الأصلي Favolacce، بينما العنوان الإنكليزي يُترجم إلى العربية بـ"حكايات سيئة") للشقيقين التوأمين الإيطاليين داميانو وفابيو دينّوسنزو. مثلُ ثالث: "برلين ألكسندِرْبلاتز" للألماني برهان قرباني، ابن عائلة أفغانية مهاجرة إلى ألمانيا عام 1979، قبل ولادته بعامٍ واحد.

هذه الأفلام مُشاركة في المسابقة. المشترك بينها يتمثّل بجماليات الصورة، المتمكّنة من تعرية اجتماعٍ وأفرادٍ وحالات. الكوريّ الجنوبيّ مُكتفٍ بـ77 دقيقة، لالتقاط حالاتٍ مختلفة لنساء تجمعهنّ صداقة أو معرفة. الإيطالي محتاج إلى 98 دقيقة، ليتفنّن في كشف الهوّة السحيقة التي يغرق فيها الاجتماع الإيطالي، المليء بالعنف والتفكّك والتنمّر والتصادم بين الناس. الألماني يتجاوز هذا كلّه، فيصل إلى 183 دقيقة، ليروي حكاية شاب أفريقي يُهاجر سرّاً إلى ألمانيا (برلين)، فيجد نفسه في مطبات قاسية تجعله، في النهاية، يغتسل من وسخ الحياة والجريمة والتوهان، فيبدأ حياة جديدة.




سلاسة الكوريّ الجنوبيّ تفتح دروباً عدّة لبلوغ جوهر النصّ ومروياته، رغم أن لا قصة واضحة، ولا مساراً واحداً، مع أنّ هناك شخصية واحدة تجمع الخيوط والعلاقات، وتكشف بعض المبطّن فيها وفي الآخرين. عنف الإيطالي مخفَّف من دون إخفائه كلّياً، فالبيئة الصغيرة مليئة بغليان يصل في ذروته إلى انتحار جماعي لمراهقات ومراهقين، في مجتمع مفكّك ومنهار. أما العنف الألماني فأقسى وأحَدّ، لأنّ الرحلة المؤدّية إلى خلاص منشود تمرّ في محطّات تكاد تُشبه محطّات درب الجلجلة، المفضية إلى موتٍ فقيامة.

في أنحاء مختلفة من سيول، تلتقي كي ـ مي (كيم مينْ ـ هِيْ) نساء ترتبط معهنّ بصداقة أو تعارف. تزور إحداهنّ في منزلها، وتلتقي بأخرى في مقرّ عملها، مثلاً. لا شيء يحدث. الكلام كثير، يتعلّق بأحوال وذكريات وراهِن. تناول طعام، واحتساء نبيذ، وشراء هدايا، ونقاشٌ في فنون وثقافة وسينما، واستعادة ذكريات، وسوء فهم بين جيران، مسائل تحضر في الدقائق كلّها. بعض هذا يُشبه "حكايات خيالية": الإيطاليون يأكلون ويحتسون الخمر كثيراً. وعلى "هامش" هذا تنكشف أحوالهم شيئاً فشيئاً، وتظهر تمزّقاتهم واضطراباتهم وقلاقلهم ووحشيتهم وعنفهم وعدم اكتراثهم بصداقة أو "جيرة"، رغم وجود مراهقات ومراهقين بينهم، هم أبناؤهم وبناتهم. أما برهان قرباني، فمهموم بسيرة مهاجر غير شرعيّ، يغرق في الجحيم، ثم "ينبعث" منه إنساناً آخر، بعد أهوالٍ وصدمات وخيبات قاتلة.

كاميرا "المرأة الراكضة" هادئة وشبه ثابتة. عدساتها تقترب من وجوه، وتحوّل بعض الكادرات إلى ما يُشبه لوحاتٍ فنية تقترب ألوانها من الرمادي، أو الأسود والأبيض المخفَّف (الفيلم بالألوان). الصورة نقيّة. الكلام، رغم كثرته، يُكثِّف النصّ ويختزل فضاءَه ونبرتَه بما يعكس أحوالاً وأقداراً. تصوير "حكايات خيالية" مبنيٌ على تعرية أرواح ونفوس وتفكير وسلوك. عائلات مُقيمة في حيّز جغرافي صغير، تعجز عن تصرّفٍ سليم في بيئة يُفترض بها أنْ تكون هادئة، بحسب طبيعتها. الخلل داخلي، أي أنّه مُقيم بين جدران المنازل، وفي نفوس وعقول وعلاقات عائلية ضيّقة. صورة "برلين ألكسندِرْبلاتز" تمزج اللاوعي بالواقع، وتفتح الوعي على التخييلات والكوابيس. حبّ يُعطب، وصداقة تتخلخل، وانفصام واضطراب وتوهان.

المساهمون