أفلام "البريناله 2020": السينما نادرة لكن المواضيع سجالية

26 فبراير 2020
فيليب غاريل متوسّطاً ممثلات وممثل فيلمه الأخير (ستفان كاردينالي/Corbis-Getty)
+ الخط -
يُعبِّر زملاء وأصدقاء، يحضرون "مهرجان برلين السينمائي الدولي" منذ أعوام مديدة، عن استياء وانزعاج إزاء البرمجة الخاصّة بالدورة الـ70، المُقامة بين 20 فبراير/ شباط و1 مارس/ آذار 2020. يُقارنون الأفلام المُشاركة في الدورة الراهنة بأفلام دورات سابقة، فيجدون أنّ بعض الأفلام، المعروضة في الأيام الـ4 الأولى من الدورة الحالية في المسابقة وفي برامج أخرى، غير باهرة كالسابق، لكنّهم يتوقّعون أنّ الأيام المقبلة ستشهد انفراجاً إبداعياً مطلوباً. أشياء كثيرة متبدّلة، يرون أنّها غير مريحة في متابعة مُشوّقة ليوميات مهرجانٍ، يبدأ ـ بدورته الـ70 تلك ـ مرحلة جديدة من تاريخه، مع تولّي كارلو شاتريان ومارييت ريسّنبيك منصبي الإدارة الفنية والإدارة التنفيذية.

المُشاهدة تؤكّد شيئاً من هذا، من دون مقارنة مع السابق. أفلامٌ عديدة تعاين أحوالاً وانفعالاتٍ، من دون إثارة دهشة أو صدمة أو تحريضٍ على نقاشٍ مفتوح على الأسئلة كلّها. فيلمٌ فرنسي بلجيكي بعنوان Effacer L’historique، للثنائي الفرنسي بونوا دولَبين وغوستاف كرفرن، يتصدّر الواجهة، لسخريته وكوميديته السوداء وتلاعبه السينمائي على تفاصيل بسيطة لعيشٍ يومي، تصنع أزمات نفسية واجتماعية ومعنوية، بعيداً عن أي تحليل أو تفسير. السويسري "الشقيقة"، للمخرجتين السويسريتين ستيفاني شْيُوَا وفِرونيك ريمون، مُصاب بميلودرامية مُحصّنة من البكائيات، لانشغاله بالأهمّ: كيفية الاغتسال والتطهّر من المآزق المعلّقة والأسئلة التائهة في يوميات المرء، عبر مواجهة الموت، المتأتي من إصابة بمرضٍ سرطانيّ.

فيلمٌ فرنسي آخر يغوص في مسام النفس الفردية، بحثاً في سلوكها ونظرتها إلى الآخر، عبر الجسد والحبّ والجنس. الفرنسي فيليب غاريل، في "ملح الدموع"، يتابع يوميات شابٍ يُقيم علاقات مع شاباتٍ يرغب فيهنّ جنسياً، من دون أنْ يكون "دون جوان"، بقدر ما يبقى جاذباً لصبايا يبحثن عن حبّ حقيقي فيقعن في الاستغلال، أو يُدركن منفذاً، أو يذهبن إلى أنفسهنّ لضمان عيشٍ مختلف، بينما يبقى هو في مكانه "العاطفي": رغبة جنسية لا أكثر، مع ما يمكن لتلك الرغبة أنْ تمتلكه من أسبابٍ ودوافع.

هذه أفلام مشاركة في المسابقة، ومتنافسة على جوائز مختلفة، أبرزها "الدبّ الذهبي". يُضاف إليها الألماني "أوندينا" للألماني كريستيان بتزولد (تُذكر جهة الإنتاج قبل جنسية المخرج لأنّ تحديد هوية الإنتاج أهمّ من جنسية صانعه في المهرجانات وفي صناعة السينما حالياً، ولهذا كلامٌ ونقاشٌ لاحقان)، المبني على "علاقات حبّ" مُصطدمة بانفصال أو مرض أو موت، مع أنّ الحبّ أقوى، كما يوحي المبطّن في السياق الحكائيّ. لكن الحبّ لن يطغى لوحده على المناخ الدرامي، لأنّ هناك مشاهد تُذكِّر بفصلٍ من التاريخ الألماني، خصوصاً بعد الوحدة الناشئة من تحطيم "جدار العار" (1961 ـ 1989) في قلب برلين. ذلك أنّ أوندينا (باولا بيير) تعمل في مؤسّسة معنية بالعمارة والسياحة والجغرافيا البرلينية (إنْ يصحّ التعبير)، وتروي لسياحٍ وزائرين مسار إعادة الإعمار، وشكل العمارة والتصميم المديني، ومحطات مختلفة من تاريخ المدينة والبلد، منذ ما قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) حتى اليوم.

أوندينا غير راغبة في انفصال عمن تُحبّ، ومن تُحبّ يذهب إلى غيرها، مع أنّه غير مرتاح في قراره هذا. تلتقي شاباً لطيفاً، فتُغرم به. يُصاب بـ"موت دماغي" بعد فقدانه الهواء دقائق كثيرة، أثناء عمله في أعماق المياه، فتنتقم لنفسها بقتل حبيبها السابق، ثم بالغرق في بحيرة، وهو غرقٌ ملتبس، إذْ لن تُكشف نتيجة الغرق في البحيرة. حبّ وتاريخ وانقلابات ومرض، وهذا الأخير محور "الشقيقة"، فالممثل المسرحي سْفَنْ (لارس أيدينغر) مُصاب بسرطانٍ يتفاعل سريعاً فيه. شقيقته التوأم ليزا (نينا هوس) كاتبة مسرحية متعلّقة به للغاية. والدتهما كاتي (مارتي كيلّر) صعبة المراس. المسرح طاغٍ في العائلة. المرض يُفكِّك العائلة بعد تعرية الجميع. ليزا محور كلّ شيء: زوج وولدان، وأم قاسية، وشقيق مريض، ومخرج مسرحي يتعامل مع الحياة بواقعية رغم معرفته بها وبشقيقها. عالَمٌ قاتل. "هاملت" جزءٌ من الحكاية، لكن "هانسل وغريتر" يحضران أيضاً.

المواضيع متنوّعة. الغوص في جحيم المرض انعكاسٌ لرغبة العيش عبر الكتابة والتمثيل (الشقيقة). الموت إنقاذٌ للمحبوب من مرضه (أوندينا)، بينما التملّص من الحبّ إمعانٌ في تدمير الذات (ملح الدموع). الدراما طاغية في الأفلام تلك. الخوف والتحطّم الذاتيّ والقلق والانكسار والخيبة، عناوين مشتركة، بينما يذهب Effacer L’Historique إلى كوميديا ساخرة وسوداء، لنقدِ عالمٍ غارقٍ في التقنيات الحديثة، التي تُدمِّر عيش الناس ويومياتهم ونفسياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية الطبيعية، وتدفعهم إلى هاوية الخراب الكبير. قسوة النقد "الكوميدي الساخر" أجمل، سينمائياً، من مرارة الميلودراميات المباشرة أو المبطّنة/ المواربة، الحاضرة في الأفلام الـ3 الأخرى. الكوميديا الساخرة والسوداء أقوى في معاينة الواقع وتفكيكه، من كلّ تنظيرٍ وخطابيّة. هذا يُقدِّم الفيلم الفرنسي البلجيكي على الأفلام الأخرى، رغم أهمية المواضيع الإنسانية والانفعالية والاجتماعية في تلك الأفلام الأخرى، ورغم جماليات تكتنفها في اشتغالٍ وتأمّلٍ وسرد.

مع الثنائي الفرنسي بونوا دولَبين وغوستاف كرفرن (Effacer L’historique)، تبغي الرحلةُ في أحوالِ راهنٍ فرنسي في إثارةِ متعة المُشاهدة، والتنبيه إلى مخاطر الراهن. 3 شخصيات أساسية تواجه مآزق حادّة: اتصال هاتفي من مجهولة، توقع برتران (دوني بوداليدي) ـ المرتبك في مسؤوليته إزاء ابنته التي تتعرّض للتنمّر في مدرستها ـ في فخّ حبّ أو وهم حبّ عبر التواصل الهاتفي الجنسي؛ وماري (بلانش غاردان) ـ العاجزة عن استعادة حياة طبيعية بعد طلاقها، واختيار ابنها العيش مع والده بسبب قدرة الوالد على تحمّل تكاليف عيشه خلافاً لها ـ التي تقع ضحية شابٍ يُصوّرها في أوضاعٍ جنسية مختلفة كي يبتزّها؛ وكريستين (كورّين ماسيارو)، المهووسة بالمسلسلات التلفزيونية وبربح نجومٍ إضافية. هؤلاء جميعهم يواجهون مخاطر التقنيات التي يحاولون التحرّر منها، وإنْ كان الفيلم يُصاب في نهايته بخطابية مباشرة وفجّة (ولو لدقائق قليلة، ربما يراها البعض ضرورية قياساً إلى مسار الحكاية) عن مساوئ التخلّي عن الأشياء الطبيعية في حياة المرء، والانغماس في أهوال التكنولوجيا المتسلّطة والطاغية.

"ملح الدموع" مغامرة سينمائية جميلة، تبحث في مسألة الارتباط بالآخر: علاقات حبّ/ جنس، وعلاقات أهل وعائلة: يبدو لوك (لوغانّ أنتيوفيرمو)، لوهلة أولى، مسالم وطيّب ووسيم وجاذب. يأتي إلى باريس للمشاركة في برنامج تدريسي/ تدريبي، متعلّق بأعمال الخشب. يريد اكتشاف ذاته عبر علاقاته بصبايا يلتقي بهنّ هنا وهناك، رغم ارتباطه بعلاقة "جدّية" بجنفياف (لويز شوفيلّوت)، التي "يهرب" منها بعد اكتشافه أنّها حامل منه. أول علاقة مع جميلة (عُلايا عمامرة). ثاني علاقة مع بيتسي (سهيلة يعقوب). اكتشاف الجسد يأخذه في رحلة متقلّبة وصعبة. كلّ واحدة منهنّ تعثر على دربٍ، فصدقها الكبير معه قاسٍ وسلبيّ عليها. نهايته حاضرة في وحدة، بعد موت والده، وانفضاض الجميع عنه.

نماذج معروضة في مهرجان، تُعاني دورته الـ70 تلك مصاعب مرحلة جديدة، يُراد لها أنْ تؤسّس فعلاً تجديديّاً.
دلالات
المساهمون