الوثائقي والأرشيف: فيلمٌ يُصنع في غرفة التوليف

الوثائقي والأرشيف: فيلمٌ يُصنع في غرفة التوليف

05 اغسطس 2019
فورمان بلسان فورمان: لعبة التوليف (فيسبوك)
+ الخط -
لن يبقى الفيلم الوثائقي على حاله. تطوّرات عديدة يُدركها في أعوامٍ فائتة. كل جديد يظهر، يجعله أكثر اختلافًا وتشويقًا. منذ تسعينيات القرن الـ20 تقريبًا، يبدأ خروجًا من روتين تسجيليّته. بعدها، يكسر كلّ حدّ فاصل بين التوثيق والمتخيّل. لاحقًا، يستعين بالتحريك، الذي يُساهم في إضفاء مسحة أجمل وأعمق على البوح والسرد. في هذا كلّه، يبحث عن كلّ جديد ممكن. التقنيات خاضعة لـ"سطوة" إبداعه وجمالياته. المواضيع المعلّقة كثيرة، والمخبّأ يصعب حصره بأعدادٍ. الذاتيّ حيويّ وفعّال، وقادرٌ ـ في الوقت نفسه ـ على أن يكون إطلالة شفّافة وحميمة على الجماعي والعام. الذاكرة مليئة بأسئلة معلّقة، وبقضايا ملتبسة، وبحقائق ووقائع مغيّبة، وبتفاصيل يُمنع إظهارها أحيانًا. الراهن مُشبع بمسائل وحكايات وحالات. الوثائقيّ التجديديّ فِعلٌ سينمائيّ لكشفٍ وبوحٍ وأقوال.

الوثائقي غير هادئ. لن تُرضيه التجارب السابقة، فهو يريد جديدًا، في الجوانب كلّها التي تصنع فيلمًا. لن يستسلم أمام موانع ورقابات. لن يصمت إزاء المُتاح أمامه من أرشيفٍ مفتوح، إنْ يسعى سينمائيّ وثائقيّ إليه. لن يتغاضى عن رغبات فردية في كشفٍ وتعرية. الأرشيف خزّان نابض بمعطيات ومعلومات وحقائق، ومهتمّون كثيرون ينتظرون لحظة "السماح" بالاطّلاع على السرّي فيه، فيعثرون على ما يُثير فيهم اهتمامًا وحماسة عمل، أو على ما يُلبّي رغبة لديهم في معرفة واكتشاف. لن يكون السرّي وحده حافزًا لاهتمام وحماسة، فالأرشيف المُصوّر والمعروف محرّض على إنجاز وثائقيات، تصنع جديدًا في صناعة السينما.

هذه وثائق. هذه تفاصيل مُدوّنة، وبعضها رسميّ أو سرّي يُكشف عنه بعد مرور سنين عديدة. الوثائقيّ أقدر على معاينتها وتحويلها إلى صُوَر تُشَاهَد، وللتقنيات والجماليات دورٌ كبيرٌ في إثارة متعة المُشاهدة، وفي التحريض على التفكير والتأمّل والتساؤل. الأرشيف المُصوّر والمعروف قابلٌ، هو أيضًا، لصنع صُور تُشاهد بمتعة.

في دول غربيّة كثيرة، يُتاح للمهتمّين فرصة التنقيب في أرشيفٍ مليء بحكايات وخفايا وأحداث، مسكوت عن بعضها، وممنوع تناول بعضها الآخر أعوامًا طويلة، أو محفوظ في خزائن غير سرّية. المكشوف في الصحيفة الإسرائيلية "هآرتس" مؤخّرًا، بخصوص الجرائم المرتكبة أثناء احتلال فلسطين، قابلٌ لألف وثائقيّ ووثائقيّ. هكذا، يُمكن إدانة العدو المحتلّ بما يملكه العدو المحتلّ من معلومات، مُوثّقة من قِبل أجهزته ومسؤوليه وبعض صانعي تلك الجرائم، وهي متاحة الآن لراغبين في الاطلاع عليها وقراءتها ودراستها وتحليلها ومناقشتها، والبناء عليها. جرائم ستالين، في بدايات حُكمه التسلّطي، مُوثّقة بشهادات مُصوّرة بحسب تقنيات التصوير حينها، تتحوّل إلى فيلمٍ وثائقيّ سينمائي بديع، بعنوان "المحاكمة" (2018) للأوكرانيّ سيرغي لوزنيتسا. وثائق مُصوّرة عن محاكمة "مُتّهمين" بـ"انقلاب" على نظام ستالين، تُكشف قبل أعوام قليلة، فيستغلّ لوزنيتسا فرصة "الإفراج" عنها، لصُنع وثائقيّ مهمّ، من دون أن يتدخّل فيه، مكتفيًا بلعبة التوليف الأجمل والأعمق والأقدر على أن تعكس ما يرغب المخرج في قوله، وإنْ مواربة.

جديد الوثائقيّ، في صناعة السينما في العالم، يتمثّل بكيفية تحويل كمّ هائل من الصُور الأرشيفية واللقطات المُصوّرة إلى فيلمٍ متكامل، إنْ يكن الأرشيفُ والمُصوّرُ سرّيين أو غير سرّيين. الأرشيف السرّي، أو بعضه على الأقلّ، يُكشف بعد حين. والبعض هذا مليء بما يُغذّي إنجاز صناعة وثائقية بأفلام وأفلام.

التجارب الأجنبية عديدة، تلك المتعلّقة بتحويل أرشيف مُصوّر إلى أفلام متكاملة. التجارب حاضرة وفعّالة، تُثير متعة المُشاهدة والتفكير والتأمّل: "دييغو مارادونا" (2019) للبريطاني آسيف كاباديا، و"فورمان مقابل فورمان" (2019) للثنائي التشيكي إيلينا تْرَسْتيكوفا وياكوب هايْنا، و"فالتس فالدهايم" (2018) للنمساوية روث بكرمان. هذه أمثلة قليلة للغاية، تمنح المهتمّ فرصة معاينة كيفية بلورة "مفهومٍ جديد" لصناعة الوثائقيّ، وكيفية المساهمة في تطوير لغته واشتغالاته، وكيفية الاستفادة من أرشيف مُصوّر ومعروف، في صنع وثائقيات ترتكز على السينمائيّ البحت في قراءة حدثٍ، أو في إعادة قراءته. الأهمّ أيضًا كامنٌ في أن الأرشيف المُصوّر، الذي يُستخدم في صناعة الوثائقي، كافٍ لإنجاز فيلم متكامل، لن يُدخل المخرج فيه إضافات إلّا نادرًا، فيُصبح الأرشيف، الخاضع لتوليفٍ سينمائيّ جمالي، فيلمًا "آنيًا".

كأنّ المخرجُ الوثائقيّ، المستند في عمله إلى أرشيف مُصوّر، غير راغب بما هو خارج المادة التي يحصل عليها. فالمادة كافية لوحدها لكشف مخفيّ في سيرة أحدهم، أو في مسألة أو حكاية، أو ربما في تبيان بعض المعروف بأساليب مختلفة، تلبية لحاجة سينمائية أو لرغبة سينمائيّ في كشف جانب من دون الآخر. مع مارادونا وفورمان، يتحوّل الأرشيف المُصوّر والمعروف ـ فهو غير سرّي، وغير ممنوع من البثّ والانتشار، لكنه غير مُعلَن أو مُستَغَلّ سينمائيًا في السابق ـ إلى إعادة سرد حكاية فردية على ضوء تحوّلات وانقلابات ومواقف وحالات، فيُظهر الفيلم تفاصيل ومسائل عن مارادونا وفورمان بأشكالٍ تختلف عن المعروف عنهما سابقًا، عبر ما يقولان ويتصرّفان ويُعبّران عنه في الأرشيف المُصوّر والمعروف نفسه. مع كورت فالدهايم، تذهب روث بكرمان إلى ما هو خلف الأرشيف المُصوّر، وهذا معروفٌ أيضًا، ولا جديد فيه. فهي، رغم مرور أعوامٍ طويلة على الحدث بحدّ ذاته، تستعيد أرشيفًا مُصوّرًا ومعروفًا، لإطلاق "إدانة جديدة" لفالدهايم، بسبب مواقف قديمة له إزاء النازية.

هذا كلّه مُطالبٌ بمزيد من التنبّه والمتابعة والنقاش. الوثائقيّ في السينما الراهنة احترافٌ ومواجهة وتعرية. جانبه الفنيّ أجمل وأعمق وأقدر على إثارة انفعال وتأمّل. ولعلّ قولاً للمُولّفة الأميركية تيلما شوينمايكر، المعروفة بإنجازها مونتاج 21 فيلمًا لمارتن سكورسيزي بين عامي 1967 و2019، كفيلٌ باختزال المسألة كلّها، رغم انهماك المولِّفة بالسينما الروائية الطويلة: "الفيلم يُصنع في غرفة التوليف".

المساهمون