جمالية التكثيف السرديّ

جمالية التكثيف السرديّ

01 يونيو 2018
من "موج 98" لإيلي داغر (فايسبوك)
+ الخط -
يميل شبابٌ عربٌ كثيرون إلى تحقيق أفلامٍ قصيرةٍ، في بداية اشتغالاتهم السينمائية تحديدًا. المعاهد الأكاديمية تطلب منهم أفلامًا قصيرًة في "امتحان" التخرّج. بعضهم يواظب عليها لاحقًا. يراها تمرينًا على تكثيف اللغة والحدث والمعاينة والقول والتعبير. يجدها تحريضًا على امتلاك براعة التخلّص من الثرثرة البصرية. يريدها أحيانًا "محطة استراحة" في عمله، عندما ينتقل إلى الروائي الطويل أو الوثائقي. 


هذا حاضرٌ في المشهد العربي. قليلون للغاية هم أولئك المُصرّون على الروائي القصير كنمط اشتغال دائم لهم. أسباب ذلك كثيرة، أبرزها متعلّق بالإنتاج والتسويق والعروض التجارية. المنتجون غير راغبين في صرف أموالٍ عليه. الموزّعون منفضّون عنه. المهرجانات العربية المختصّة به نادرة، والمهرجانات الأخرى تضعه في خانة منفردة فيعجز عن جذب مشاهدين. المحطات التلفزيونية العربية غير مكترثة بالسينما أصلاً. الممثلون مستعدّون أحيانًا للظهور في أفلامٍ قصيرة، لكنهم يُفضّلون الروائي الطويل، الأوسع انتشارًا وجماهيرية و"نجومية". النقّاد والصحافيون السينمائيون يتعاملون معه في "أوقات فراغهم"، وقليلون هم الذين يتابعونه بشغف وحماسة، ويقرأونه بوعي معرفي، ويناقشون مخرجيه في تفاصيله، وفي أدواتهم وأساليبهم.

له في الغرب مساحة أوسع. له برمجة في صالات عرض تجاري وشاشات تلفزة. له مهرجانات خاصّة به تحتلّ، منذ وقتٍ طويل، مراتب أساسية في المشهد السينمائي الدولي. مهرجانات غير مكتفية بعرضه في مسابقات وبرامج، لأنها مانحةٌ إياه سوقًا سينمائية أيضًا، كتلك الموجودة في مهرجانات دولية، كـ"برليناله" (برلين) و"كانّ" (فرنسا). سوق تجري فيها اتفاقات بيع وشراء، وتحصل أثناءها لقاءات لتمويل مشاريع أو إنتاجها. هذا غير حاصل في مهرجانات عربية معنية به، كالإسماعيلية وطنجة وغيرهما.

رغم هذا كلّه، يُقدِّم مخرجون شباب عرب أفلامًا قصيرًة تعكس حرفية متينة الصنعة، ومتخيّلًا بصريًا آسرًا، وتمكّنًا فنيًا وثقافيًا وجماليًا من اشتغال سوي. اللبناني إيلي داغر (1985) مثلاً يحصل، بفضل "موج 98" (2015)، على جائزة "السعفة الذهبية" الخاصّة بالأفلام القصيرة في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ. هذا مهمّ، بقدر ما يحمل الفيلم نفسه من أهمية بصرية وجمالية وفنية، جاعلاً التحريك انعكاسًا سينمائيًا لعوالم نفسية وروحية وتأملية في واقع بيروت وخرابها وتمزّقات ناسها.

لكن بعض هؤلاء، المتمكّن من جمالية الفيلم القصير، عاجزٌ عن تحقيق جماليات كهذه في أفلام روائية، يُصرّ على تحقيقها بعد فترة زمنية يُمضيها في إنجاز أفلام قصيرة. أسباب هذا متنوّعة، لكن أحدها كامنٌ في أنّ النجاح في نوعٍ لن يعني نجاحًا في نوع آخر بالضرورة، لأن لكلّ نوع متطلباتٍ لن يتمكّن السينمائي من تلبيتها دائمًا.

هذه ملاحظات محتاجة إلى أكثر من قراءة، لكنها قادرة على إثارة مزيد من نقاش مطلوب، مرتبط باستمرارية عربية في صناعة الفيلم الروائي القصير.

المساهمون