"ميِّل يا غزيِّل" لإليان الراهب.... بساطة التوثيق وجمالياته

27 مارس 2017
هيكل في "ميِّل يا غزيِّل" لإليان الراهب (فيسبوك)
+ الخط -
يُشكِّل "ميِّل يا غزيِّل" (2016)، الوثائقي الجديد للّبنانية إليان الراهب (1972)، إضافة بصرية على المقاربة السجالية، عبر الصورة، لأحوال بلدٍ وأفرادٍ. فبعد 4 أعوام على "ليالٍ بلا نوم" (2012)، الذي يُفكِّك شيئاً من ذاكرة حربٍ أهلية ـ من خلال لقاء صداميّ بين أسعد شفتري، مسؤول الأمن السابق في مليشيا "القوات اللبنانية"، ومريم سعيدي، والدة المقاتل الشيوعي ماهر (17 عاماً)، المفقود منذ عام 1982 ـ تذهب الراهب إلى راهنٍ مرتبك ومعقَّد، تلتقي فيه حالات موروثة من أزمنة الحرب نفسها، وما قبلها أيضاً، كي تؤكّد بعض المؤكّد: الخراب اللبناني فظيع، والسلم الأهلي معطَّل، والتمزّق الداخلي حادّ، والانشقاق المدنيّ قاسٍ، والحصانة الاجتماعية معطوبة.


وهذا كلّه، بقسوته وواقعيته، مُصَوَّرٌ ببساطة تمتلك حساسيتها النقدية الهادئة، إذْ تبدو إليان الراهب مكتفية بما تلتقطه كاميراها (تصوير جوسلين أبي جبرايل) من حكايات ووقائع، فتُقدّمه عبر توليفٍ سينمائيّ (الراهب نفسها)، ينغمس في نبض ريفٍ لبنانيّ مُقيم على حافة الانفجار الأهليّ، مع أن الظاهر ـ الذي يقول نوعاً من عيشٍ مشترك بين فئات طائفية/ مذهبية مختلفة ـ مخادعٌ.

لكن خديعة الظاهر لن تقوى على واقع الانشقاق، إذْ تستفيض كاميرا "ميِّل يا غزيِّل" في سردٍ مبسّط للعمق المضطرب في أحوال تلك الفئات، وتصادمها الخفيّ والمُعلن، مع مراقبة تأثيرات الحالة السورية، المنبثقة من "الثورة" المندلعة منذ 15 مارس/ آذار 2011، قبل أن تتحوّل إلى حربٍ أسديّة طاحنة ضد سورية وأبنائها. فالمنطقة الجغرافية (مرتفعات عكار في شمال لبنان)، التي تختارها إليان الراهب، تقع على الحدود مع سورية، وتواجه، بأشكالٍ شتّى، تحدّيات تبدأ بالإنسانيّ، وتصطدم بقوى التطرّف والأصولية الإسلامية.

في ظلّ الحدث اللبناني، الذي تكشفه إليان الراهب عبر شخصية هيكل (مزارع وصاحب مطعم)، في منطقة "الشمبوق" (عكار)، تبرز طبيعةٌ خلاّبة، تريدها كاميرا "ميِّل يا غزيِّل" ركيزة درامية في لعبة التناقضات القائمة بين "بشاعة" خطابٍ عنصريّ، و"بهاء" جغرافيا، يُصبح (البهاء/ الجغرافيا) نادر الوجود، عاماً تلو آخر. وإذْ تطرح الجغرافيا سؤال الانهيار المكانيّ، من خلال ملامح نضارة وطيبة وبساطة يفقدها أناسٌ كثيرون؛ فإن حدّة التمزّق، الحاصل بين هؤلاء الناس، تضع الجغرافيا في صراعٍ يوميّ مع طبعٍ بشريّ يميل إلى التقوقع والعزلة، ويحصّن حضوره بنصٍ حياتي منغلق وغاضبٍ.

وهيكل، العفوي والمرح والمكافح بحبّ وهدوء من أجل حماية أشيائه الصغيرة والقليلة من كل اندثار، يتواطأ، جمالياً، مع كاميرا "ميِّل يا غزيِّل"، في فضح بعض نفوسٍ وسلوكٍ وتفكير. فإليان الراهب ـ التي تواجه بيئة اجتماعية ثقافية طائفية محدّدة (البيئة المسيحية) في "هيدا لبنان" (2008)، كي تُعرّي بعض أكاذيبها، وتقول شيئاً من أحوالها ـ تمارس تلك اللعبة الوثائقية الجميلة في جديدها هذا، منصرفةً إلى تلك البيئة، المتاخمة لأمكنةٍ وبيئاتٍ أخرى، تتصارع معها في مسألة الأراضي (بيع وشراء) مثلاً، في حين أن منبع الصراع كامنٌ في صدام طائفي/ مذهبي وثقافي واجتماعي مزمن.

لن يكون صعباً التنبّه إلى هذا كلّه. شخصيات عديدة في "ميِّل يا غزيِّل" ـ الفائز بجائزة لجنة التحكيم، الخاصّة بمسابقة "المهر الطويل"، في الدورة الـ 13 (7 ـ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2016) لـ"مهرجان دبي السينمائيّ الدولي" ـ تتصرّف وفق أهوائها وأمزجتها وطبيعتها ومنطقها وتربيتها، فتكشف، من دون أدنى جهدٍ، حجم الانهيار المتنوّع، الذي يخضّ الاجتماع اللبناني. والانهيار منفلشٌ في أمور عديدة: من الكسارات، والطرقات المحفَّرة، والصراع على الأراضي بين مسلمي المنطقة ومسيحييها، وأيضاً داخل البيئة المسيحية نفسها، والتمزّق العائليّ، إلى تداعيات الحدث السوري، وانشغال بعض البيئة المسيحية بالهمّ الأمني، في إطار منطق الحرب الأهلية وسلوك ميليشياتها.

فالعناوين كثيرة، وهيكل يجمعها في سرده حكايته الشخصية في بلدته، وإليان الراهب تلحق به من قصة إلى أخرى، ومن موقع جغرافي إلى آخر، ومن نزهةٍ إلى نزهةٍ في أحوالٍ كثيرة، يتخبّط بها المكانُ وروحه. وإليان الراهب تستمع إليه، فتذهب إلى آخرين للتأكّد، أو للمناكفة، أو للبحث عن إضافة. تستمع إليه، ثم تلتقي أناساً يُكمِلون بعض السيرة العامّة للبلدة ومحيطها، كنموذجٍ للمكان الأكبر والحالة الأعم: لبنان. مع أن المُفضَّل يكمن في مشاهدة هادئة للبيئة و"هيكلها"، بعيداً عن كلّ شمولية.

للمرويّ على لسان هيكل وألسنة آخرين أهمية وتأثير كبيران، تماماً كجمالية الصورة في التقاط المباشر والمبطّن معاً، وحيوية التوليف في صناعة الحكاية وسردها. مع هذا، يحرِّض "ميِّل يا غزيِّل" على مزيدٍ من نقاشٍ، يتناول أحواله الوثائقية أيضاً.


دلالات
المساهمون