مصر بين ثُلاثي القروض والهبرات والكباري

مصر بين ثُلاثي القروض والهبرات والكباري

17 مايو 2024
ارتفاع جنوني بأسعار السلع في مصر، القاهرة، 19 ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الاقتصاد المصري يواجه تحديات بسبب الاستدانة المفرطة التي تزيد التبعية المالية للخارج وتضعف الملاءة المالية، مما يعكس أزمة في الإدارة الاقتصادية والمالية.
- مشكلات في الإدارة العامة والتخصيص الارتجالي للمال العام تؤدي إلى إهدار الموارد وغياب المشاركة الشعبية، مما يقلل من الشفافية والفعالية في الرقابة والمساءلة.
- التركيز المفرط على البنية التحتية على حساب قطاعات أكثر إنتاجية يضعف النمو الاقتصادي المستدام ويزيد من التحديات المالية، مما يعكس غياب الرؤية الشاملة والتخطيط الاستراتيجي.

لو أردنا إجمال المسار الاقتصادي في مصر اليوم في ثلاث كلمات لا غير، فلن نجد أدقّ ولا أبلغ من ثلاثية القروض والهبرات والكباري، كأشمل الكلمات دلالة عن المحاور الأساسية لعمل السياسات الاقتصادية المصرية، والأكثر تعبيراً عما يكمن وراءها من إشكاليات قادتنا للأوضاع الصعبة الحالية.

وبالطبع ليست المشكلة في الثلاث كلمات نفسها بمعانيها المباشرة حصراً، بل في ما تمثّله وما يكمن خلفها من دلالات أشمل في السياق المصري المعاصر، مُجسّدةً في السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة المصرية طوال العقد الأخير بالخصوص. فخلف كل كلمة من الثلاث تكمن إشكاليات عدة، يتقاطع ويتشابك بعضها مع بعض في المعنى والمحتوى، وإن اختلفت في الزاوية مع كل واحدة منها، لتلتقي كلها في نفس النقطة وعلى نفس النتائج تقريباً، بالاشتراك في وضع الاقتصاد بمجموعهِ تحت المقصلة المُزدوجة للاستبداد السياسي وعدم الرشادة الاقتصادية، بأكثر الأوصاف أناقةً وتحفّظاً.

  • أولاً، القروض: تمثّل القروض أولها وأخطرها في السياق الراهن؛ خصوصاً بما تتضمّنه من تعميق للتبعية المالية للاقتصاد تجاه الخارج، وتكمن خلف القروض في السياق المصري ثلاث إشكاليات مباشرة وغير مباشرة.

1 - أولى الإشكاليات، المباشرة والواضحة بشكل خاص، هي الاستدانة المُفرطة داخلياً وخارجياً، بما لمصر معها من خبرات تاريخية مؤلمة، كانت أخطرها الذروة الإسماعيلية في القرن التاسع العشر، التي انتهت بالاحتلال الإنكليزي لمصر، واستعباد ماليتها العامة - لحدّ تصفية خدمات التعليم والصحة بصورة شبه كاملة - لأكثر من ثلاثين عاماً، تليها الذروة المباركية في ثمانينيات القرن الماضي، التي انتهت بمشاركة مصر في حرب الخليج الثانية وتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي أوائل التسعينيات؛ كثمن سياسي واقتصادي لخفض وجدولة ديونها إنقاذاً لها من الإفلاس.

وقد عادت مصر لتُفرط في الاستدانة بذروة جديدة طوال العقد الأخير، بعد عقدين ونصف تقريباً من تعلّم درس الاستدانة الخارجية وترشيدها طوال ما بقي من عهد مبارك وسنوات ثورة يناير القليلة، تلك الذروة الجديدة التي تجاوزت قدرة الاقتصاد على الاستيعاب المرن دون أزمات سداد؛ بما انعكس على الملاءة المالية للبلد واضطرّها لبيع العديد من الأصول والمشروعات، فضلاً عن الخفض الكبير المتتالي لسعر الصرف، وهو الوضع الذي كانت مصر في غنى عن التردّي إليه، لو تصرّفت الإدارة السياسية بقدر أكبر من الرشادة الاقتصادية والمالية، أو لو امتلكت البلد على الأقل مناخاً سياسياً وإعلامياً يسمح بالرقابة والمساءلة؛ ومن ثم مراجعة السياسات وتغيير مسارها قبل أن تتفاقم الأضرار إلى هذا الحد.

2 - الإشكالية الثانية، لكن غير المباشرة، والمؤثرة على المستوى الجزئي، هي ما تمثله القروض والدين العام من سياسة مالية غير كفؤة وغير عادلة بطبيعتها، فهي أعلى تكلفة وأبعد عن التمثيل الشعبي نسبياً من جهة، كما أنها تسهم في إعادة توزيع الدخول والثروات لصالح الدائنين أصحاب الفوائض المالية على حساب الشغيلة والفقراء من جهة أخرى، فضلاً بالطبع عن تأثيرها السلبي على كامل الاستقلالية المالية والاقتصادية والسياسية للبلد المدين، والاضطرار لبيع أصول وأراضي البلد "بيع المُضطرّ"، بما يتضمّنه من شروط مُجحفة وأثمان بخسة في أغلب الوقت.

3 - أما الإشكالية الثالثة، غير المباشرة كذلك، لكن المؤثرة على المستوى الكلي، فهي نمط النمو القائم على المديونية، والذي يتسم بعدم الاستدامة بطبيعته، فهو غير قادر على الاستمرار بشكل مستقر؛ بما يتضمّنه من ارتدادات انكماش عكسية خلال سنوات قليلة لا غير، خصوصاً في حالات التعثّر المالي المُرجّح دوماً في هذا النمط، كما حدث في مصر عامي 2017 و2023 على التوالي، عندما انكمش الناتج المحلي الإجمالي فورياً بالتوازي مع الخفض الاضطراري لسعر الصرف؛ بما مسح أغلب صافي النمو المُحقّق بالناتج الإجمالي بفضل هذه المديونية، والذي على الأرجح يصبح سلبياً لو خصمنا منه القيمة الحالية للزيادة بالدين الخارجي خلال نفس الفترة.

  • ثانياً، الهَبْرَات: بالمثل تمثّل الهبرات ثلاث إشكاليات أخرى مترابطة، تتضح في معنى اللفظ الدارج نفسه كلفظ سيئ السمعة بطبيعته، حدّ غرابة دخوله في نطاق لغة وخطاب المسؤولين في الاجتماعات والمؤتمرات العلنية والرسمية.

- الإشكالية الأولى هي الإدارة الشخصية الارتجالية القائمة على سلطة مُفرطة بيد بضعة أشخاص، تنتهي كلها في حالتنا المصرية في قبضة رئيس الجمهورية وحده، فتخصيص المال العام للأغراض المختلفة، بما فيها أكثرها منطقيةً ونُبلاً، يجب أن يخضع من حيث المبدأ لدراسة مُطوّلة ومُعمّقة يقوم بها فنّيون مُتخصصون، يخضعون لمعايير علمية وإجرائية مُحددة، وليس بتقديرات فردية ارتجالية بمنطق "اللوُكشة" بالتعبير العامّي المصري، الذي يعني أخذ الأمور بالجمع والتقريب دون وزن أو حساب أو معايير؛ فهذا ما يميّز الدول الحديثة التي ترتكن لحكم القواعد والمؤسسات عن أشباه الدول التي تقوم على أهواء الأفراد وتقديراتهم الذاتية.

- الإشكالية الثانية، المرتبطة بالأولى والناتجة عنها، هي غياب المشاركة الشعبية الحقيقية في القرارات العامة، فحتى مع دراسة المُتخصصين، يجب أن يعود تقرير تخصيص المال العام لإرادة شعبية ورقابة برلمانية، تناقش وتحلّل وتراجع وتقرّر؛ فالمال العام كله يعود للشعب، سواءً أتى من موارد ضريبية مباشرة أو غير مباشرة، أو من إيرادات الأصول والمشروعات العامة التي تعود ملكيتها النهائية له كذلك؛ فالدولة مجرد وكيل على المال العام، وليست مالكاً مُستقلاً لأي شي، بل الشعب هو المالك الحقيقي وصاحب السلطة النهائية على كلٍ من المال والدولة، وليس أيّ مسئول أو مؤسسة مهما على شأنهم؛ فهم في النهاية مجرد مُوكَلين عن الشعب على أملاكه وأمواله، مُؤتمنين عليها بصلاحيات مُحددة ومُقيّدة ومؤقتة، لا يقدّرون على استخدامها وتوزيعها بالأهواء والتقديرات الشخصية، بل بمعايير وإجراءات موضوعية، وبشفافية كاملة تكفل الرقابة والتقييم والمراجعة.

- منطقياً، تنتج عما سبق الإشكالية الثالثة مُمثّلةً في إهدار المال العام، الذي نقترض جزءاً معتبراً منه حالياً، سواءً من الداخل أو الخارج، في سياق تأزمنا المالي الشديد بما يُفترض معه ميلاً أكبر للرقابة والترشيد، الأمر الذي لا يراعيه تخصيص الأموال للاستخدامات دون دراسة مُفصّلة؛ بما يفتح باباً واسعاً، خصوصاً مع تعميم الممارسة على المستويات كافة، لإهدار الموارد بالتقديرات الاعتباطية التي تتجاوز المطلوب غالباً، كما يغري حتى المسؤولين المخلصين النزيهين بالتوسّع والمُبالغة في التقدير من باب الاحتياط، فما بالنا بالفَسَدة منهم الذين لن تخلوا تقديراتهم من الغرض، ما تؤكده التجربة التاريخية في أغلب الدول التي اعتمدت على القطاع العام، حيث مال المسؤولون التنفيذيون دوماً لتقديم تقديرات مُبالغ فيها للاحتياجات المالية والمادية؛ لضمان تلبية احتياجاتهم الطارئة والمُحتملة، ومن باب الاحتياط لعدم تلبيتها مُستقبلاً.

  • ثالثاً، الكباري: مثل سابقتيها، تمثل الكباري ثلاث إشكاليات أخرى، تتشابك وتتقاطع مع الإشكاليات السابقة، وإن اتسمت بقدر أكبر من الجِدالية.

1 - الإشكالية الأولى هي نمط التنمية مُفرط التركيز على البنية التحتية، بكل ما يتضمّنه ذلك الإفراط من تجاوز لحدود الرشادة الاقتصادية والاجتماعية في الحساب الزمني وتخصيص الموارد، خصوصاً المُقترضة المُكلّفة منها، بما يحمّل البلد بتكاليف بنية تحتية تتجاوز قدرتها على التحمّل المالي والاستيعاب الاقتصادي، في سياق محدودية قدرتها على جذب الاستثمار الأجنبي، بل وعن تحفيز وتنمية الاستثمار الخاص المحلي نفسه، الذي يتراجع اليوم وفقاً لمؤشر مديري المشتريات للشهر الأربعين على التوالي.
والأدهى اعتماد تمويل هذه البنية التحتية على الاقتراض الداخلي والخارجي؛ بما زاحم القطاع الخاص على الموارد المالية، وبما أسهم في رفع تكلفة الائتمان المحلي، المتأزّم بفعل الركود التضخمي أصلاً؛ ليصبح تمويل البنية التحتية المُستهدفة لجذب الاستثمار الخاص بحدّ ذاته سبباً في تراجعه.

2 - الإشكالية الثانية هي الانحياز العقاري التشييدي الكامن في نمط التنمية المذكور، فبإفراطه في التركيز على البنية التحتية يدعم توجيه وتخصيص الموارد لأنشطة العقار والتشييد، التي يعاني الاقتصاد من تضخّمها المَرضي بالفعل، وتجاوزها لحدودها الصحية لها في أيّ اقتصاد، كما أشرنا في مقالات سابقة (الورم العقاري)، على حساب القطاعات السلعية الأكثر إنتاجية من زراعة وصناعة وخِلافه؛ بما يفاقم إهدار الموارد الاستثمارية الشحيحة في استخدامات محدودة التشغيل والإنتاجية من جهة، وبما يضعف نمو العَرض المحلي من السلع والخدمات من جهة أخرى؛ بما يعنيه كل ذلك من إضعاف إمكانات زيادة الصادرات لتحسين الوضع التجاري وميزان النقد الأجنبي المأزومين، أو على الأقل خفض وتيرة التضخّم وارتفاع الأسعار المتفاقمين محلياً.

3 - وتعيدنا الإشكالية الثالثة هنا، مرةً أخرى، إلى غياب المشاركة الشعبية الحقيقية في القرار العام، فحتى لو كانت الكباري والبنية التحتية مهمة، فإنها ليست الشيء المهم الوحيد في بلد بظروف مصر، كما أنه وراء كل مهم يوجد أهم، والمُفترض أن يرجع تحديد وترتيب ذلك المهم وذينك الأهم للنقاش الاجتماعي العام ولمُمثّلي الشعب المُفترضين، والذين حتى بفرض غيابهما أو عدم فاعليتهما؛ كون الأخيرين خصوصاً غير مُمثّلين فعلياً سوى لاختيارات الأجهزة الأمنية ولترتيبات الرشاوى المحاسيبية، فالمُفترض بأيّ حكومة تمتلك أيّ قدر من الرشادة، بما تمتلكه من أدوات لمراقبة الرأي العام (والتي نعلم أن حكومتنا تُنفق الكثير عليها)، أن تحاول التقارب مع ذلك الرأي والتقاط أولوياته وتحفّظاته، ليس فقط من باب الاهتمام بمصالحه، بل حتى من باب البقاء على مقربة من أولوياته، ولو بقدر؛ بما يجعله أكثر استعداداً - على الأقل - لتصديق دعايات وسرديات الحكومة عن جهودها الإصلاحية التنموية، وانطلاقها من المصالح الوطنية الحقيقية.

ختاماً، الإشكالية الأم: أزمة الإدارة العامة، وكما نرى، لا يتصدّر أيّ من الإشكالات المذكورة قلّة الموارد المالية أو كثرة السكان كأصل البلاء، رغم أنها مظاهر وعوامل مهمة بالتأكيد، لكنها في الواقع لا ترتقي لمرتبة الأولوية أو الخطورة التي تحتلها هذه الإشكالات، كما أن المنطق العلمي والوقائع التاريخية تناقض تقديمها على ما سواها كما يحاول الخطاب الرسمي الحكومي في مصر تصوير المسألة دوماً.

فعلى جانب الموارد المالية، حصلت مصر في العقد الأخير وحده على عشرات المليارات من الدولارات قروضاً ومساعدات، بما قارب ما حصلت عليها أوروبا كلها ضمن مشروع مارشال بعد دمار الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن تدفق مئات المليارات من تحويلات العاملين بالخارج طوال العقود العدة الماضية، ومع ذلك لم يزد موقفها الاقتصادي والمالي إلا تأزّماً، بل وتراجع المتوسط العام لنموها الاقتصادي باستمرار.

أما على جانب حجم السكان، فأغلب نمور شرق آسيا يتجاوزون مصر كثافةً سكانية، ومع ذلك تراوحت مواقفهم ما بين النجاحات التنموية المُذهلة في أحسن الأحوال، والأوضاع الجيدة المُتحسّنة باستمرار في أسوأها، رغم أن بعضهم بدأ من أوضاع أسوأ كثيراً من مصر. إنها أزمة إدارة وسياسات عامة، كما تعبّر عنها هذه الإشكالات الفرعية المُكثّفة في الثلاثية المذكورة.

المساهمون