لبنان بلا "صيرفة": اعتماد منصة "بلومبيرغ"... ثغرات تثير الشكوك

09 سبتمبر 2023
منصة صيرفة لم تضبط السوق النقدية (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

وافق مجلس الوزراء اللبناني في جلسة عقدها الخميس على اعتماد منصة "بلومبيرغ" بدلاً من "صيرفة" لتبديل العملات، وذلك بعد حوالي عامين على إطلاقها من قبل حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، في إطار الإجراءات الاستثنائية التي فرضها حول العمليات على العملات الأجنبية وحول السحوبات النقدية، إلا أن منظومة الفساد المترسخة في المنظومة النقدية قد تحول دول نجاح التجربة.

وأصدر مصرف لبنان التعميم الأساسي رقم 157 في مايو/ أيار 2021، ليفرض على المصارف أن تشترك حكماً في المنصة الإلكترونية لعمليات الصرافة المنشأة من قبله، بهدف "تحقيق استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية"، في ظلّ الانهيار التاريخي الذي سُجِّل في قيمة العملة الوطنية، وذلك قبل أن تمثل منصة صيرفة "أداة نقدية غير مؤاتية أدت إلى ارتفاعات قصيرة الأجل في سعر صرف الليرة على حساب الاحتياطي والوضع المالي لمصرف لبنان، لا سيما في غياب سعر صرف وإطار نقدي جديدين"، حسب البنك الدولي.

وقال البنك الدولي في تقرير له في 16 مايو/ أيار 2023 إن "منصة صيرفة تحوّلت إلى آلية لتحقيق أرباح من عمليات المراجحة، بلغت حوالي 2.5 مليار دولار منذ إنشائها، فالحصول على الدولار المعروض على المنصة يحقق أرباحاً كبيرة وخالية من المخاطر نظراً لوجود هامش بين سعر العملة على المنصة وسعر العملة في السوق الموازية".

وحاول حاكم مصرف لبنان السابق الإبقاء على منصة صيرفة رغم المعارضة الواسعة التي طاولتها، بحجة دورها في ضبط سعر صرف الدولار في السوق الموازية، خصوصاً أنه في كلّ مرة كان يخرج الحديث فيه عن اتجاه لوقفها، يبدأ سعر صرف الدولار في السوق السوداء بالتحليق.

منصة تفتقر للشفافية

وحاول سلامة ومن خلفه السلطة السياسية استيعاب نقمة موظفي القطاع العام، من خلال تحويل أجورهم ورواتبهم إلى الدولار الأميركي بسعر المنصة، الذي أصبح أيضاً معتمداً لتسعير فواتير وتعرفات العديد من القطاعات، وذلك قبل أن يتبيّن أن هذه المنصة، صبّت في مصلحة كبار المحظيين والتجار، وساهمت في تعميق الأزمة.

وتأتي موافقة مجلس الوزراء، الخميس، بناءً على اقتراحٍ قدّمه حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري إلى وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل، يقضي باعتماد منصّة إلكترونية عالمية موثوقة بالتعاون مع شبكة "بلومبيرغ" الأميركية، ووقف استخدام منصة صيرفة التي تفتقر إلى مبادئ الشفافية والحوكمة.

ويسود اعتقاد في أوساط المقرّبين من منصوري، بحسب ما ذكر لـ "العربي الجديد"، بأن المنصة الجديدة التي قد تتطلب إنهاء تحضيرات إطلاقها حوالي الشهرين، ستؤمن العرض والطلب على الدولار في السوق بوضوح من دون أي عمليات جانبية كما كان يحصل أيام الحاكم السابق رياض سلامة.

وبحسب كتاب منصوري، الذي تسلّم مهامه بعد انتهاء ولاية سلامة، في 31 يوليو/ تموز الماضي، فإن هذا التعديل اعتُمد بالاستناد إلى دراسة أعدّها فريق عمل صندوق النقد الدولي في مايو/ أيار 2023، وبناءً على توصياته بالتوقف عن استخدام منصة صيرفة.

وكان المجلس المركزي في مصرف لبنان ناقش هذا الموضوع، وطلب من الحاكم السابق رياض سلامة، في يونيو/ حزيران الماضي، توجيه كتاب إلى كلّ من "بلومبيرغ" و"رويترز" لتقديم عروضٍ، وعُقدت لأجل هذه الغاية اجتماعات بين ممثلي الشركتين والمعنيين في مصرف لبنان، ثم رسا الخيار على الأولى.

ثغرات "بلومبيرغ"

وفي منتصف يوليو/ تموز الماضي، أعلن نائب حاكم مصرف لبنان، سليم شاهين، أن البنك المركزي سيوقف عمل منصة صيرفة بعد انتهاء ولاية سلامة، كاشفاً لـ"رويترز" أن قيادة المصرف تجري محادثات مع صانعي السياسات في الحكومة والمجلس النيابي ومع صندوق النقد الدولي، بشأن الحاجة إلى وقف العمل بهذه المنصة التي تفتقر إلى الشفافية والحوكمة.

وفي مقابل اختيار منصوري وأعضاء المجلس المركزي "بلومبيرغ" كمنصة بديلة فإن هذا المسار لم يحز على رضا العديد من الأطراف المصرفية والمالية، كما يشكك خبراء اقتصاديون في نجاح المنصة الجديدة خصوصاً أن "الثقة بين المواطن وكذلك المودع اللبناني معدومة بالقطاع المصرفي، وفي ظلّ غياب الإجراءات الإصلاحية التي تعدّ السبيل الأساسي للحفاظ على الاستقرار النقدي في البلاد ومعالجة الأزمة الاقتصادية"، بحسب مصادر "العربي الجديد".

ويقول محمد فحيلي، خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد، لـ"العربي الجديد"، إنّ "منصة بلومبيرغ هي عبارة عن منصة تواصل بين العارضين والطالبين للأداة المالية"، مشيراً إلى أن "نجاح هذه المنصة يعتمد على حجم التداول والعمليات المنفَّذة من خلال وسيلة التبادل هذه، أي بلومبيرغ".

ويشرح فحيلي أن "تسوية الصفقات تتم عبر بلومبيرغ عن طريق التحويلات المصرفية الإلكترونية للأموال، من دون اللجوء إلى الأوراق النقدية، وحتى اليوم، المنصة غير مجهَّزة للتداول بالعملات الأجنبية"، لافتاً إلى أنه "وإن تمّ تجهيزها تقنياً، هناك ثغرات بالأرضية القانونية، ومعظم عمليات تداول العملات الأجنبية بالتجزئة ستستمرّ من خلال مكاتب الصرّافة حيث يكون التسليم الفعلي بالأوراق النقدية مطلوباً، وبالتالي، فإن من العوامل التي تجعل الحديث عن منصة بلومبيرغ غير ذي نفع أن وسائل الدفع المقبولة على الساحة الاقتصادية في لبنان هي الأوراق النقدية فقط".

ويشير فحيلي إلى أن منصة بلومبيرغ تعمل بين المؤسسات المالية، وستوفر من تلقاء نفسها الشفافية، لكنها لا تلغي أسعار الصرف المتعددة، ولن تساهم في حل مشكلة انعدام الثقة التي يعاني منها القطاع المالي في لبنان.

اتجاهات معاكسة

في المقابل، يرى خبير المخاطر المصرفية أن الوضع الاقتصادي الراهن لا يشجع الذهاب باتجاه هذه المنصة، لأن التجار بجزءٍ كبيرٍ منهم يهمّهم التداول عبر منصة تفتقد إلى الشفافية، كي لا يصرّحوا عن حجم عملياتهم الاقتصادية، بهدف تفادي دفع الرسوم والضرائب قدر المستطاع، حتى المصارف التجارية التي تعدّ من أكثر المستفيدين من منصة صيرفة التي أسسها حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، يهمّها كذلك العمل وفق منصة تفتقد إلى الشفافية بغية الاستمرار في تحصيل العمولات، وتشكيل مخزون من الدولار الأميركي بسعر مدعوم من البنك المركزي من دون التصريح عنه بالطريقة اللازمة.

في السياق، يلفت فحيلي إلى أن أكبر مؤشر لعدم رغبة التجار بالانخراط بهذه المنصة هو اندفاعهم للامتثال لأحكام التعميم الأساسي رقم 165 الذي سمح لحاملي الأوراق النقدية بالدولار أو الليرة اللبنانية بفتح حسابات فريش (بالعملة الأجنبية) ومقابلها الحصول على شيكات وبطاقات دفع وغيرها من العمليات، إذ إن الاندفاع نحو هذه الحسابات من قبل التجار كان خجولاً والمصارف التجارية كذلك لم تشجع زبائنها على الذهاب بهذا الاتجاه، بينما اليوم تشجعهم على فتح حسابات فريش لا تشغيلية.

ويتوقف فحيلي كذلك عند دعوة أمين عام جمعية المصارف في لبنان، فادي خلف، إلى اعتماد بورصة بيروت بدلاً من بلومبيرغ، بوصفها قادرة على تأمين التداول الطبيعي بالدولار عبر طرق شفافية وفي فترة قصيرة جداً.

ويقول فحيلي إن النقاط التي أدرجها خلف لطمأنة المواطن اللبناني للانخراط في منصة بيروت هي بالضبط مصدر قلق للناس، أي مجرد تسلمها من جانب مصرف لبنان والمصارف التجارية يخيف المواطنين، نتيجة فقدان الثقة مع المصارف اللبنانية من جهة، وفقدان ثقة المصارف أيضاً مع مصرف لبنان، رغم محاولة ترطيب الأجواء مع الحاكم بالإنابة، وسيم منصوري، بعد المعركة التي فتحت مع رياض سلامة، الأمر الذي دفع إلى الاعتماد أصلاً على الأوراق النقدية، واليوم لا مؤشر بأن هناك استعداداً للتخلي عن الأوراق النقدية كوسيلة دفع مفضلة لدى كل مكونات الاقتصاد اللبناني، ومن ضمنها الدولة.

تبعاً لها كله، يشدد فحيلي على أن الحلّ الوحيد للأزمة يكون بإطلاق عجلة ترميم الثقة، بين المودع اللبناني والقطاع المصرفي من جهة، وبين المواطن اللبناني والقطاع المصرفي من جهة ثانية، فالكلام عن استرداد الودائع أو تسديدها لا يمت للمنطق الاقتصادي بصلة، لأن المكان الطبيعي للودائع هي بحسابات مصرفية لتمويل الدورة الاقتصادية.

ويوضح فحيلي أن إطلاق عجلة ترميم الثقة تدفع باتجاه طمأنة المودع على أمواله وتمكينه من الوصول إليها عند الحاجة، أما بالتفريق بين المواطن والمودع، فالقصد هنا أنه خلال السنين الماضية لم يعد العديد من المواطنين زبائن للمصارف، إما بسبب إقفال حسابات بعضهم قسراً، أو لكون المؤسسات التي يعملون فيها أوقفت توطين رواتبهم لدى المؤسسات المصرفية، من هنا فإن ترميم الثقة يعيد هذه المؤسسات إلى توطين رواتب موظفيها بالقطاع المصرفي، ويعيد المواطنين لفتح حسابات بالمصارف التجارية بدل تخزين مليارات الدولارات لديهم بالخزانات الحديدية.

ويلفت فحيلي إلى أن تجربة منصة صيرفة كانت جيدة جداً وناجحة وكانت مدعومة من قبل نواب الحاكم الأربعة، عند تأسيسها بموجب التعميم رقم 157، إلى حين غابت الرقابة عنها، ولم يعد المواطن أو المودع مستفيداً منها، بل المصرفيون والمديرون التنفيذيون في المصارف وكل من كان يتمتع بعلاقة جيدة مع مصرفي نافذ أو مع مصرف لبنان أو ينال رضاه.

المساهمون